الانتخابات العراقية وخرافة تكافؤ الفرص

الانتخابات العراقية وخرافة تكافؤ الفرص

تتطلب الانتخابات العادلة والنزيهة أن يكون هناك تكافؤ للفرص بين المرشحين المتنافسين، وفي حال استحالة ذلك، فبالتأكيد لن تكون الانتخابات لا عادلة ولا نزيهة، حتى لو افترضنا ضمان عدم التزوير المباشر في صناديق الاقتراع، وهو أمر مشكوك فيه أصلا!
قلنا في مناسبة سابقة أن المشرعين قد «ضمنوا» التزوير في متن قانون الانتخابات، حين اشترطوا استخدام ما يسمى بالبطاقة الالكترونية القابلة للتزوير (والتي استخدمت كثيرا في عمليات التزوير التي شهدتها انتخابات عامي 2014 و 2018) ولم يشترط القانون البطاقة البايومترية صعبة التزوير إلا في التصويت الخاص (تصويت العسكريين والمهجرين والخارج) الذي لا يتجاوز 10 في المئة من مجموع المصوتين. وكان واضحا حينها أن الفاعلين المهيمنين على القرار في مجلس النواب لديهم مصالحهم الخاصة والمباشرة خلف إقرار ذلك، لاسيما مع وجود معلومات مؤكدة عن توافر مئات الآلاف من البطاقات الالكترونية لدى بعض الأحزاب، والأفراد، وهم يتهيؤون لاستخدامها في الانتخابات القادمة، الأمر الذي ينهي مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين، فليس ثمة منافسة عادلة مع من يملك مثل هذه البطاقات بسبب استغلاله منصبه وسلطته أو علاقته بالسلطة لتأمين الحصول عليها، او بسبب المال السياسي أو الشخصي الذي يتيح للبعض الحصول على هذه البطاقات مع وجود سوق مفتوح لهذه البطاقات!
العامل الثاني الذي يقضي على مبدأ تكافؤ الفرص هو الدعاية الانتخابية، وحجم الأموال المستخدمة لأجلها، والأهم من ذلك قدرة المرشحين أو من يقف خلفهم من الأحزاب أو الفاعلين السياسيين، على استخدام السلطة ومؤسسات الدولة للدعاية! فقانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم 9 لعام 2020، تجاهل عمدا وضع ضوابط تتعلق بحجم الأموال المستخدمة للدعاية الانتخابية، كما ان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بدورها، لم تلتفت إلى ذلك عند وضعها نظام الحملات الانتخابية رقم 5 لسنة 2010! في حين وجدنا المفوضيات السابقة تضع محددات للإنفاق، ففي انتخابات عام 2014 أصدرت المفوضية نظاما بعنوان «تنظيم الانفاق على الحملة الانتخابية رقم 1 لسنة 2013» في محاولة منها لضمان مبدأ تكافؤ الفرص بين الكيانات السياسية والمرشحين على حد سواء. وفي هذا النظام تم تحديد حد أقصى من الإنفاق للمرشح، وحد أقصى للإنفاق للكيان السياسي. كما اشترط هذا النظام أن يقوم كل كيان سياسي بفتح حساب بنكي خاص بالإنفاق الانتخابي يتم من خلاله، حصرا، دفع نفقات الحملة الانتخابية وتتابعه المفوضية نفسها، وأخيرا أقر النظام عقوبات مالية في حال ثبوت ارتكاب الكيان السياسي أو المرشح مخالفة لهذه الشروط. وقد وجدنا إشارة صريحة لهذا النظام الخاص بالإنفاق في نظام الحملات الانتخابية رقم 11 لسنة 2018، حيث نصت المادة المادة 4 منه على ان على الأحزاب والتحالفات السياسية والمرشحين الالتزام بضوابط الإنفاق المقررة. صحيح أن لا أحد التزم بهذه الشروط، بما فيها المفوضيات نفسها، ولكن على الأقل كانت هناك محاولة، ولو شكلية، لضمان تكافؤ الفرص في هذا الجانب الحيوي!

عندما يكون تكافؤ الفرص مجرد خرافة، فإن الحديث عن انتخابات عادلة ونزيهة لن يختلف عن حديث السعلوة في التراث الشعبي العراقي

ولا يضع نظام الحملات الانتخابية رقم 5 لسنة 2020 الذي أصدرته المفوضية، أية ضوابط تتعلق بحجم الأموال المستخدمة للحملات الانتخابية للمرشحين! وهذا يطيح بمبدأ تكافؤ الفرص، مع وجود ثقافة عامة تشكلت بداية من انتخابات 2010 وهي اللجوء العلني إلى رشوة الجمهور عبر حملات لا أخلاقية، بعضها ممول من المال السياسي أو الشخصي، وبعضها يستغل مؤسسات الدولة نفسها، كتبليط الشوارع، والمشاركة في افتتاح مشاريع هي ممولة أساسا من المال العام وتوزيع المرشحين لمولدات كهربائية على مناطقهم، أو توزيع مساعدات عينية على الناخبين، كل هذه الممارسات التي تنتهك معايير الانتخابات العادلة والنزيهة، لا تلتفت اليها مفوضية الانتخابات، ولا تعاقب من قام بها! صحيح أن القانون ونظام الحملات الانتخابية ينص على أنه «يحظر الانفاق على الدعاية الانتخابية من المال العام او من موازنة الدولة او أموال الأوقاف الدينية، او أموال الدعم الخارجي» وأنه يحظر «منح مكاسب مادية أو معنوية أو الوعد بها بقصد التأثير على الناخبين ونتائج الانتخابات»! وان النظام يقرر ان يكون مصدر تمويل الحملات الانتخابية أو ترتيبات دعمها موارد مشروعة! لكن الواقع انه لا رقابة أصلا على مسألة مصادر الأموال المستخدمة في الحملات الانتخابية، فلم يتحدث القانون أو المفوضية عن آليات تحديد مصادر أموال الحملات الانتخابية، وما إذا كانت من مصادر مشروعة أو غير مشروعة، وحتى في حالة وجودها افتراضا فان لا عقوبات واضحة ومحددة يمكن ايقاعها على المنتهكين لهذه الأحكام!
أما فيما يتعلق بتوقيتات الحملات الانتخابية، فقد حدد قانون الانتخابات أنه لا يجوز المباشرة بالحملات الانتخابية قبل المصادقة على المرشحين، ولكننا نجد أن الغالبية العظمى من المرشحين قد بدأوا حملاتهم الانتخابية مبكرا أمام أعين المفوضية، والأهم هنا ان القانون لم يحدد أي عقوبات في حالة «انتهاك» هذه الشروط، فمراجعة المواد 25 ـ 30 لقانون يكشف عن استخدام القانون عبارات فضفاضة مثل: يمنع، ويحظر، ولا يجوز من دون ترتيب أية عقوبات على من ينتهك ذلك! و المواد 31 ـ 37 المتعلقة بالأحكام الجزائية لا ترتب أي عقوبات رادعة حقيقية ضد انتهاك هذه الشروط المفترضة! وبالعودة إلى نظام الحملات الانتخابية الذي أصدرته المفوضية لن نجد شيئا مختلفا! فالنظام يتحدث عن لجان رصد فيما يتعلق بأماكن ممارسة الدعاية الانتخابية حصرا (المادة 21)! وأنه عند ثبوت المخالفة فانه سيعاقب بإحدى العقوبات المنصوص عليها في نظام الشكاوى والطعون الذي لم تصدره المفوضية حتى اللحظة!
بالعودة إلى القوانين الانتخابية المتعلقة بمجلس النواب العراقي، بداية من الأمرين 96 و97 لعام 2004 الصادرين عن سلطة الائتلاف المؤقتة، مرورا بالقانون رقم 16 لسنة 2005 وتعديلاته، والقانون رقم 45 لسنة 2013 وتعديلاته، وأخيرا القانون رقم 9 لسنة 2020 نجدها جميعا قد تحدثت عن شروط الحملات الانتخابية، دون أن تشير إلى مبدأ تكافؤ الفرص وكيفية تحقيقه أو ضمانه! وهذا الأمر وجدناه أيضا في الانظمة الخاصة بالحملات الانتخابية التي أصدرتها المفوضيات العليا المستقلة للانتخابات المتعاقبة إذ لم نجد أية إشارة لمبدأ تكافؤ الفرص، أو الشروط التي يمكنها ان تضمن ذلك، وإن بحدها الأدنى.
في مدونة حسن السلوك في مجال الانتخابات، التي اعتمدتها اللجنة الأوروبية للديمقراطية (لجنة البندقية 2002) تم تحديد ثلاثة متطلبات لضمان تكافؤ الفرص هي: حياد السلطات العامة، وتغطية وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وأخيرا تمويل الدولة للأحزاب والحملات. وواضح جدا في الانتخابات العراقية أنه لا وجود لأي من هذه الشروط الثلاثة وانها غير مفكر فيها من الأصل! فالسلطات العامة للدولة متحيزة وغير حيادية، وتغطية وسائل الإعلام المملوك للدولة أثبتت خلال الانتخابات الماضية أنها طرف في الحملات الانتخابية وليس جهة محايدة، وأخيرا ليس ثمة تمويل من المال العام للأحزاب والحملات الانتخابية (قرر قانون الأحزاب رقم 36 لسنة 2015 ما أسماه: الإعانات المالية من الموازنة العامة للدولة بداية من انتخابات العام 2018، ولم يتم إنفاذه حتى اللحظة)!
عندما يكون تكافؤ الفرص مجرد خرافة، فإن الحديث عن انتخابات عادلة ونزيهة لن يختلف عن حديث السعلوة في التراث الشعبي العراقي!