عندما تغلق نوافد التعبير وتصبح العلاقة بين المواطن والسلطة مبنية على الخوف والانتقام، وعندما تتحول قوات الأمن من دورها الأساسي في حماية المواطنين إلى قهر المواطنين وإذلالهم والتنكيل بهم، وعندما تحارب الأفكار بالهراوات وأقبية السجون، بدل المحاججة والحوار، وتبيان الخطأ من الصواب، تأكد أن السلطة، أي سلطة، تعيش ساعاتها الأخيرة، وعما قريب تتصدع وتلفظ أنفاسها.
عندما يصل الاحتقان داخل جماهير الشعب إلى درجة الغليان، وتكسر حاجز الخوف، ويهتف الرجال والنساء والشباب والشابات والموظفون والطلاب والعاطلون والمستقلون والحزبيون: الشعب يريد إسقاط النظام فاعلم أن سقوط النظام مسألة وقت، ولا توجد قوة تستطيع حماية هذه التركيبة المعزولة.
عندما يبتعد المثقفون والكتاب وأصحاب الفكر والصحافيون وصناع الرأي والعلماء والمحللون بغالبيتهم العظمى عن الطبقة الحاكمة، ولا تجد هذه الطبقة حولها إلا الانتهازيين والفاسدين والشبيحة والبلطجية، الذين يفاخرون بعضلاتهم ومسدساتهم، لا بأفكارهم، فاعلم أن تلك الطبقة باتت منقطعة تماما عن قاعدتها الجماهيرية، ولا علاقة لها بهموم الناس وأحزانهم وآلامهم وآمالهم، وسقوطها بات وشيكا، ولا شيء يمنعها من السقوط. فاستخدام العتلات والهراوات وتكسير الكاميرات، وزج الغاضبين في السجون، وتعذيبهم أو قتلهم، لن يحمي هذه الفئة من الانهيار، فهذه مواصفات سلطات القهر على مرّ التاريخ التي انتهى بها الأمر إلى القيعان. عندما تفقد السلطة، أي سلطة، الشرعية الانتخابية الحقيقية، وعندما تفقد الشرعية الثورية، وعندما تفقد الشرعية الأخلاقية فلا مناص من سقوط تلك السلطة، لأنها تكون سلطة مغتصبة للموقع، تستمد قوة تماسكها من الدعم الخارجي والقهر الداخلي. من أعطاها الحق في أن تدوس على الدستور، إن كان هناك دستور، أو على القانون الانتخابي وتقرر لوحدها عدم خوض الانتخابات، وإلغاء ما تم من انتخابات والتفرد بالسلطة؟ هذه ممارسات تعلم الغالبية الساحقة من الشعب أنها سلطة غير شرعية، ولو نزلت ميدان المنافسة الشفافة والعادلة والنزيهة، سترمي بها الجماهير خارج الجغرافيا والتاريخ، وينتهي بها الأمر في الزنازين، بانتظار كلمة القضاء الفاصلة والعادلة في ما ارتكبوه من انتهاكات وفساد وجرائم. عندما تعطل المؤسسات، ويتحول الرئيس إلى حاكم مطلق يقرر ما يشاء، ويعين من يشاء، ويستولي على كل المناصب، فهو رئيس سلطة ورئيس منظمة ورئيس حزب، ورئيس عشيرة، ورئيس الأجهزة ورئيس صندوق المال، يعطي من يشاء ويمنع عمّن يشاء، فاعلم أن القشرة التي يتغطى بها تحت عنوان الشرعية قشرة مثقوبة، يرى الناس كل عيوبها، ولا مجال للاختباء تحت عناوين يعرف الشعب كله أنها مزورة وخاوية، ولا مجال لتجميلها بالخطابات وتصريحات من رموز الفساد. عندما يتحول الفساد إلى منظومة مؤسساتية لا تشمل الأفراد فقط، بل الجماعات والوزارات والدواوين والأجهزة، بل تصبح أخبار الفساد والسرقات والتلاعب بالأموال والوظائف والمواقع، معلومات عامة يتداولها الناس صغيرهم وكبيرهم، ولا يستطيع أحد أن يدافع عنها أمام الوثائق المنشورة، والتسجيلات المتداولة، والرسائل المتبادلة، تصبح سلطة الفساد على وشك الانهيار، وتحاول أن تنهب قدر ما تستطيع، قبل أن تزف ساعة الرحيل. عندما يعرف الناس جميعا أساليب التعيينات في الوظائف والأجهزة القضائية والأمنية، المبنية على المعارف والعلاقات الشخصية، لا على الكفاءات، عندها تتحول السلطة إلى شبكة مغانم لا علاقة لها بالوطن، ولا بالمشروع الوطني. عندما يعين الفاسدون في السلطة يتم تخريب الوطن من أجل المصالح الشخصية لهؤلاء المستفيدين. عندما يعين سفراء من العائلة نفسها وعنما يعين القاضي ابنه مستشارا قانونيا، ورجل الأمن يوزع أولاده وبناته على المناصب العليا، ويقوم رجل التنسيق الأمني فينافسه بعدد الوظائف التي وزعها على أولاده وبناته وأقاربه، وعندما يمنح بعض المسؤولين الكبار أكثر من موقع، ولكل موقع راتب عال وفي نهاية الشهر تحول الرواتب الأربعة أو الخمسة أو الستة، إلى حسابه الخاص فكيف نتوقع أن هذا المسؤول/الوزير/ قائد الفصيل غير الموجود أصلا، أن ينتقد رئيسه وولي نعمته والساهر على راحته؟ عندها تصيب العلل الوطن، ويغيب المشروع الوطني ويتصدر المشهد الفاسدون. عندما يصل مستوى الفساد الاستعداد للمقامرة بأرواح الناس عن طريق اللقاحات منتهية الصلاحية، تكون السلطة قد أصبحت خطرا حقيقيا على الشعب، لا يجوز السكوت عليها وعلى ممارساتها.
عندما يصل الاحتقان داخل جماهير الشعب درجة الغليان ويهتف الجميع: “الشعب يريد إسقاط النظام” فاعلم أن سقوط النظام مسألة وقت
عندما يتابع رجال الأمن شخصا معارضا، ينشر غيضا من فيض الفساد، والابتزاز والتعذيب في سجون السلطة ويحاصرونه في مكان نومه، وأمام أقاربه وينهالون عليه ضربا حتى الموت، إعلم أن القتلة مهزومون من داخلهم، جبناء استقووا بالعدد والعدة على شاب بسيط كان يمكن استدعاؤه للمحاكمة العلنية، وتغييبه في السجون، إن كان مذنبا. حادثة نزار تذكرني بحادثة خالد سعيد لا حادثة خاشقجي.. في يونيو 2010 رجال الأمن المصري لاحقوا هذا الشاب الناشط على صفحات التواصل، والموثق لجرائم أجهزة الأمن المصرية، فحاصروه في مقهى بالاسكندرية، ونزلوا بالهراوات على رأسه فهشموا وجهه الجميل ومثلوا بجثته. تنطلق بعدها مبادرة “كلنا خالد سعيد” قبل سبعة أشهر من انطلاق الثورة، فينضم لها الآلاف، والأمن الفلسطيني يدخل المنطقة المحرمة على الأمن برضى ومباركة وتأييد وتشجيع الكيان الصهيوني، يدخلون البيت عنوة، الثالثة والنصف صباحا ويباشرون الضرب بعتلات الحديد وأكعاب المسدسات على رجل نائم. هل هناك موقف أكثر جبنا وخسة ونذالة من هذا المشهد. استدعوه إلى مكتب المخابرات وحققوا معه. اسجنوه إن كان مذنبا حاكموه محاكمة عادلة، يعطى فيها حق الدفاع عن النفس، لكن الجبان والمذنب والمهزوم لا يقبل المناقشة والمحاججة، والدفاع القانوني، بل يسعى لإسكات الصوت تحت وابل الهراوات. بئس الأسلوب وبئس الفاعلون.
طبائع الاستبداد الحديث
“لما زاد المستبدّ ظلماً واعتسافا، زاد خوفه من رعيـته وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته”، هذا ما قاله عبد الرحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد” الذي أصدره قبل مئة وعشرين سنة، وهو قول ينطبق على كل الطغاة في كل الأزمنة وكل البلدان. عندما يختبئ المستبدون والفاسدون ويرسلون شبيحتهم ليتظاهروا دفاعا عن الطاغية، إعرف أن كراهية الناس لهم أصبحت شبه شاملة. هكذا خرجت ثلة صغيرة تحاول حماية مبارك من السقوط بعد سنواته الثلاثين، وثلة حاولت حماية القذافي من السقوط بعد سنواته الاثنتين والأربعين، وشبيحة الشام ورجال الأمن والموظفون نظموا مسيرة تأييدا لنظام القهر الجاثم على صدر البلاد لأكثرمن واحد وأربعين سنة وبلاطجة علي عبد الله صالح بعد سنواته الثلاثة والثلاثين.
الطغاة لا يتعلمون من دروس التاريخ، ولا من مآسي أندادهم، ويسيرون في النهج نفسه. يصلون الحكم إما بالانقلاب أو بانتخابات مزورة أو بالصدفة المحضة في لحظة فراغ، ثم لا يريدون أن يغادروا الكرسي، ولكي يسهلوا الالتصاق يعملون كل الخطوات المدروسة والمجربة نفسها: يقربون الفاسدين، يبعدون أصحاب الرأي الحر والضمير الحي، يكممون الأفواه، يغلقون منابر التعبير، يسخرون الصحافة لمديحهم. يقربون أولادهم ونساءهم وأحفادهم وأزواج بناتهم وأصهارهم، ويتحول هؤلاء إلى شرنقة يختبئ فيها الرئيس. يُسمعه المتزلفون ما يشنف آذانه ويسعد قلبه بعيدا عن الحقائق. كل من يعترض عليه أو ينتقد حكمه فمصيره إما السجن، أو التعذيب في الأقبية، أو الخطف والإخفاء، أو الموت ضربا أو شنقا، أو بالمنشار، أو بالعتلة أو بالتجويع حتى الموت. وطبعا يتهم كل المعارضين بأن وراءهم قوى أجنبية، وأن مؤامرة كونية تدبر لنظام الخير والإنجازات والمشروع الوطني، وعندما تنطلق الجماهير في مظاهرات عارمة يتهيأ الشبيحة لهم بالهراوات والغازات والرصاص فيسقطون بين جرحى وقتلى في شارع بورقيبة، أو ميدان التحرير، أو ميدان اللؤلوة أو شارع الستين، أو ميدان الفردوس أو ساحة الأمويين، أو في شوارع الخرطوم ومياه نهر النيل، أو في ميدان المنارة في رام الله. العقلية نفسها والمسلكية نفسها، والنتائج نفسها.
وكما حرك محمد بوعزيزي الشعب التونسي، وحرك خالد سعيد الشعب المصري، وحرك حمزة الخطيب الشعب السوري، سيسجل التاريخ أن نزار بنات أحد الفتائل التي حركت الشعب الفلسطيني، ووسعت حركة الاحتجاج ضد السلطة الفلسطينية التي تستمد شرعيتها من سلطة الاحتلال، بعد أن فقدت أشكال الشرعية كافة. الأفضل لها ولنا جميعا أن تنسحب من المشهد بشيء من ماء الوجه. ولهم عبرة في طابور الطغاة الذين شهدنا سقوطهم في عصرنا هذا من سيموزا في نيكاراغوا إلى بينوشيه في تشيلي وشاوشسكو في رومانيا وفرانكو في إسبانيا وموبوتو في زائير وبوكاسا في جمهورية افريقيا الوسطى، وعيدي أمين في يوغندا وضياء الحق في باكستان، ولسنا بحاجة إلى سرد طغاة العرب الذين فروا أو قتلوا أو سجنوا أو أطيح بهم أو شردوا نصف شعبهم مستقوين بالخارج. فهل يأخذون العبرة قبل فوات الأوان؟
عبدالحميد صيام
القدس العربي