تنطلق الدعوة الروسية إلى “الإدارة الذاتية” الكردية لشمال سورية وشرقها، بفتح حوار جديد مع النظام في دمشق، من قواعد تنافسية بحتة لا تخرج عن إطار التزاحم الروسي ـ الأميركي في سورية، وشرقها تحديداً. لكن تلقّف “الإدارة” لتلك الدعوة بـ”الترحيب الحذر”، يعتبر خطوة غير محسوبة من قبل مسؤوليها، سياسيين وعسكريين. ففي حال كان هذا الترحيب حقيقياً وليس مجرد تكتيك، من المتوقع أن يخلق مشاكل لوجستية لهذه “الإدارة”، لا سيما مع حلفائها الأساسيين في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، أما إذا مضت أبعد من المتوقع في هذا الحوار، إن بدأ، فإن احتمال إثارة غضب واشنطن عليها سيكون قائماً. وسيعرّضها ذلك لتجفيف منابع الدعم، المالي والعسكري والسياسي الأميركي، وربما رفع الغطاء عنها.
ويُفهم من تكتيك “الإدارة الذاتية” أن المسؤولين الأكراد في القامشلي يحاولون خلق توازن في علاقتهم بين موسكو وواشنطن، لا سيما بعد “شبه التخاذل” الأميركي الذي واجهه الأكراد، إبان هجوم الأتراك والمعارضة السورية ضد “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في خريف عام 2019، عندما شنّت تركيا عملية “نبع السلام” على وقع الانسحاب الأميركي الجزئي من بعض المواقع شمالي شرق سورية. لكن واشنطن لا تأخذ في الاعتبار هذه الحسابات، إذ يضع “قانون قيصر”، الذي أقرته الإدارة الأميركية بموافقة الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس والشيوخ، حدوداً صارمة على أي طرف يتعاون مع النظام أو يتواصل معه تحت أي صيغة من الصيغ. ويعني هذا أن “الإدارة الذاتية” لن تنجح في الرهان على تعاطف ودعم الإدارة الديمقراطية الحالية معها في واشنطن، فلا يمكن تجاوز القوانين هناك، تحت أي ظرف أو ضمن أي مبرر.
تخشى “الإدارة” من خطوة أميركية سلبية تجاهها في حال الحوار مع دمشق
بالتالي، فإن الحوار بين “الإدارة الذاتية” ونظام بشار الأسد، وإن بدأ وقطع أشواطاً إيجابية، إلا أنه سيخضع للأمر الواقع في شمال وشرق سورية، الذي سيكون معقداً ومتشابكاً ومحط تكهنات وأسئلة عدة، تحديداً حول الموقف الأميركي من “الإدارة”، وكيفية انعكاس ذلك على التحالف الاستراتيجي بينها وبين واشنطن، لا سيما أن لروسيا رغبة في استمالة الأكراد.
وسابقاً، لجأت “الإدارة الذاتية”، وجناحها السياسي “مجلس سورية الديمقراطية” (مسد)، إلى الحوار مع دمشق ضمن محطات عدة، لكن تلك المحطات لم تؤخذ على محمل الجد، لا سيما أنها بحثت ملفات آنية وغير استراتيجية عميقة. غير أن الدعوة الروسية تنطلق من التلميح إلى أخذ الأكراد لمواقعهم كـ”إقليم حكم ذاتي” في الحوار، والتواصل مع الحكومة المركزية في دمشق على هذا الأساس، على الرغم من أن النظام في دمشق يرفض هذا الطرح أساساً، حتى ولو كان مصدره حليفه الروسي. وكان وزير الخارجية السابق للنظام، الراحل وليد المعلم، أشار إلى عدم الرضى عن كل الطروحات الروسية حيال التعامل مع الإدارة، مؤكداً أن النظام لا يمكن أن يقبل إلا بفرض السيادة على كافة الجغرافية السورية.
ويوم الجمعة الماضي، دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أكراد سورية إلى إبداء اهتمام بالحوار مع حكومة دمشق، وعدم الرضوخ لمحاولات فرض نزعات انفصالية عليهم. وأكد لافروف، خلال مؤتمر صحافي، أن موسكو منذ بداية النزاع السوري تشجع على إجراء اتصالات مباشرة بين الأكراد وحكومة دمشق، بهدف التوصل إلى اتفاقات بشأن كيفية التعايش معاً في دولة واحدة، لافتاً إلى أن العراق المجاور يشكل مثالاً جيداً يمكن الاستفادة منه في هذا الصدد.
وكشف لافروف أن بلاده “على تواصل مع الهياكل الكردية ونطلعها على مواقفنا، لكن الأهم هو أن تبدي استقلاليتها واهتمامها بحل كافة المسائل العالقة مع الحكومة المركزية”. وتطرق إلى ما حصل عقب إعلان إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن سحب قوات الولايات المتحدة من سورية، منوّهاً إلى أن زعماء أكراداً توجّهوا إلى موسكو بطلب مساعدتهم في “إقامة جسور” مع دمشق، لكن عندما راجعت واشنطن قرارها بعد أيام اختفى اهتمام الأكراد بهذه الاتصالات. وقال لافروف: “نحن مستعدون للمساعدة في إجراء الاتصالات والمشاورات، لكن ذلك يتطلب الاتساق في مواقف الطرفين”. وحذر من المساعي الأميركية الرامية إلى تحريض بعض التنظيمات الكردية على الانفصالية، مبدياً أمل موسكو في أن الأكراد الذين يسعون إلى تطبيع العلاقات مع دمشق يدركون خطورة هذا الأمر.
سيمالكا
تقارير عربية
خلاف أربيل مع حزب العمال الكردستاني يطاول “الإدارة الذاتية” في سورية
“الإدارة الذاتية” الكردية قابلت هذه التصريحات بترحيب حذر ومشروط، وذكرت في بيان صادر عن دائرتها للعلاقات الخارجية، أول من أمس السبت، “أن الأزمة في سورية لا يمكن حلها إلا عن طريق الحوار والتفاهم السوري – السوري. وفي هذا الإطار، تبذل الإدارة الذاتية كل جهودها من أجل تحقيق هذا الهدف، بما فيه الحوار مع دمشق، لكن المعضلة الأساسية والمتجذرة في سورية في أحد أهم جوانبها هي أن النظام السوري لا يتقبل واقع التغيير في سورية، ويتمسك بالذهنية ذاتها التي أدت إلى هذه الأزمة والمعاناة السورية، ولذلك فالنظام لا يتحاور بشكل جدي مع أي من الأطراف السورية، ليس فقط الإدارة الذاتية”. ووصف البيان تصريحات لافروف بـ”الإيجابية”، وشدد على التأكيد أن “الإدارة الذاتية مع الحوار الوطني وأننا أصحاب هذا القرار. وقد حدثت عدة لقاءات مع دمشق حول ذلك، وروسيا تعلم أن سبب فشلها هو النظام السوري، بإصراره على إعادة الأمور إلى سابق عهدها قبل الأزمة السورية، إضافة إلى أن كل الممارسات التي يقوم بها النظام السوري لا تتناسب مع جهود الحوار، بالتحديد ما يقوم به من عمليات اعتقال عشوائية واستفزازات في حلب والمربعات الأمنية في الجزيرة، وهذا يثبت عدم جدية النظام ورغبته في الحل”.
وشدّدت “الإدارة” على أن “الحوار أمر استراتيجي”، مرحّبة بدور الوساطة الروسي. وأكدت الاستعداد للدخول في الحوار مع دمشق “لكن مع ضرورة مراعاة خصوصية مناطقنا، والتضحيات التي تم تقديمها في الدرجة الأولى ضد الإرهاب ومن أجل سورية ووحدتها ووحدة شعبها”.
اقترح لافروف استلهام صيغة الحكم في العراق من أجل مستقبل سورية
ويحمل بيان “الإدارة”، إشارات إلى عدم التنازل عن الوضع الحالي وصلت إليه في الشمال الشرقي من سيطرة مطلقة على الحكم والاستحواذ على مكامن الثروة، وبناء أساس لكانتون أو إقليم حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع. بالتالي، فإنها لن تتقدم للحوار على أساس أنها طرف سوري مقابل دولة، بل الذهاب كإقليم شبه مستقل للتفاهم مع حكومة مركزية في دمشق، وهذا لا يمكن أن يقبل به النظام تحت أي ظرف، وقد أشار إليه مسؤولو النظام مراراً.
غير أن مشكلة أخرى تواجه فرضية الحوار، تكمن في أن الدعوة الروسية إليه لم تحدد الأكراد بشكل عام كمكون لكونه أحد أطراف الحوار، وعلى هذا الأساس يمكن أن تلتقط “الإدارة” احتكار تمثيلها للمكون الكردي بإشارات إيجابية من موسكو. لكن الوقع يشير إلى وجود أطراف كردية ليست على وفاق مع “الإدارة الذاتية”، بل وتضع خطوطاً حمرا للحوار مع النظام، لا سيما أحزاب “المجلس الوطني الكردي”، الذي يتبنى في ذلك توجهات المعارضة السورية، وهو أحد مكونات “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”. ويخوض أساساً مع “أحزاب الوحدة الوطنية”، التي تشكل أساس “الإدارة الذاتية” بقيادة “حزب الاتحاد الديمقراطي”، حواراً للتفاهم على صيغة لتقاسم الحكم شرقي سورية، في حوار كردي ـ كردي، لا يزال عقيماً حتى اليوم.
وتبقى الأسئلة حاضرة أيضاً حول ما يمكن طرحه للتفاهم والحوار بين النظام و”الإدارة”، وما يمكن الخلاف عليه كذلك. وحول هذه التطورات، يرى صالح كدو، كبير المفاوضين لـ”أحزاب الوحدة الوطنية”، والتي يشغل أشخاصها مناصب ضمن “الإدارة الذاتية”، أن “هناك قضيتين رئيسيتين يمكن مناقشتهما والتحاور فيهما مع النظام؛ الأولى تتعلق بشكل النظام السياسي في مستقبل سورية، مثل علاقة المركز بالأطراف والنظام القانوني والسياسي وهوية الدولة. والثانية تتعلق بشكل ونمط العلاقة التي تربط مناطق شمال سورية وشرقها بالحكومة المركزية، من الجانب السياسي والاقتصادي، والتي لا تعني بأي شكل من الأشكال الانفصال عن الدولة السورية”.
ويرفض كدو، في حديث مع “العربي الجديد”، اتهام “الإدارة” بأنها تدّعي تمثيل المكون الكردي في سورية، مشيراً إلى أنه “لا يوجد طرف سياسي يمثل بنية أهلية مطلقة في سورية، وجميع الأطراف تمثل توجهات سياسية. ولا يمكن اعتبار أن الإدارة الذاتية أو المجلس الوطني هما فقط من يمثلان الأكراد، وفي الوقت نفسه لا يمكن اعتبار أن الإدارة الذاتية تمثل الأكراد فقط، وإنما هناك جزء واسع من المجتمع العربي والسرياني والأرمني في مناطقها، الموجودين بالآلاف في هياكل الإدارة الذاتية وإداراتها المختلفة وأجهرتها الأمنية والقوات العسكرية من خلال قوات سورية الديمقراطية. وتتبنى هذه الفئات تطلعات الإدارة السياسية، لذلك فإن الإدارة تمثل إرادة مجموعة من السوريين على اختلاف أطيافهم”.
يرفض النظام حواراً يُناقش صيغة إدارية أو فيدرالية
أما عن توقعه لنقاط الاتفاق والاختلاف في هذا الحوار، إن حدث، فينوّه كدو إلى أن “الاتفاق يمكن أن يؤدي إلى تيسير الشؤون العامة للناس، لجهة الجوانب الاقتصادية والأمنية والخدمية والصحة والتعليم والشؤون الأمنية. السوريون يعتقدون بوجود مشاكل حيال هذه النقاط، ونحن في الإدارة الذاتية سنكون إيجابيين حيال هذه النقاط، ونتمنى أن نلقى تجاوباً من النظام. أما النقاط الخلافية، فتكمن في تعنت النظام السوري بعدم التخلي عن أي من مكاسبه والتشديد على انفراده بالسلطة في البلاد، وعدم اعترافه بمكونات سياسية أو قومية أو مناطقية في سورية”.
من جهته، يقلل شلال كدو، القيادي في “المجلس الوطني الكردي” المناوئ لـ”الإدارة الذاتية”، من أهمية الحوار الكردي مع النظام، باعتبار أن الإدارة سعت سابقاً للحوار مع النظام من خلال جولات عدة في دمشق وقاعدة حميميم الروسية، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، بحسبه. وينوه، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أن “أي حوار ستعقده الإدارة الذاتية مع النظام، لن تمثل فيه إلا نفسها، فهي لا تمثل الأكراد السوريين، نظراً لأن موقف المجلس الوطني الكردي واضح من مسألة الحوار مع النظام، ومنذ تأسيس المجلس مع انطلاقة الثورة، كان القرار بأن الأكراد لن يحاوروا النظام بمفردهم، والحوار مشروط لدينا بأن يكون ضمن حوار وطني جامع يشمل كافة أطياف المعارضة السورية”.
ويعتبر كدو أن أي حوار في سورية لا يكون تحت إشراف الأمم المتحدة، هو “حوار عقيم”، معللاً ذلك بأن “النظام لا يملك قراره ودائماً عليه الرجوع لحلفائه الروس والإيرانيين في مثل هذه الخطوات، بالتالي لا يمكن لمثل هذا النظام أن يمنح حقوقاً ديمقراطية ومشروعة لثاني أكبر مكون في البلاد (الأكراد)، وهو لا يملك أمر إعطاء هذه الحقوق أساساً”. ويعتبر أن “مسألة إجراء حوار كردي منفرد مع النظام بمعزل عن تطلعات المعارضة السورية والشرعية الدولية، سيكون بمثابة نحر للقضية الكردية السورية، والقضية السورية برمتها”.
عماد كركص
العربي الجديد