يبدو واضحاً أن النظام السياسي العراقي الجديد، بات تائهاً في دهاليز الأزمات الإقليمية والدولية، رغم مضي ما يقارب ثمانية عشر عاما على احتلاله، وتغيير نظامه السياسي والاجتماعي في 2003، بحيث أصبح عاجزا حتى هذه اللحظة، عن اختيار طريق واضح يقود البلد نحو السلام الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، في بلد أنهكته حروب الآخرين، التي خلقت الاحتقان الطائفي والفساد وساهمت في تفاقم مأساة سكّانه.
العراق التائه في صراع حليفيه، الولايات المتحدة وإيران، الذي يجري على أراضيه، يضعه على حافة الطريق، ويمنعه من اختيار أحد اتجاهات الحليفين، وهذا ما قد اوقعه في مأزق أصبح من الصعب معالجته، بعد أن اعتمدت أسس بناء نظامه السياسي إلى حد كبير على هذه العلاقة المزدوجة، الأمر الذي سيدفع لا محالة بالبلد الابتعاد من دائرة التأثير، اذا أخدنا بعين الاعتبار الاختلاف والتناقض الواضح في العلاقة الأمريكية ـ الإيرانية فيما يتعلق بمستقبل واستقرار العراق، ناهيك عن حجم التأثير المباشر للتواجد الإيراني الذي تدعمه روسيا والصين على الأمن القومي الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط.
لقد ترجمت أحداث المشهد العراقي التي كان آخرها الهجوم الأمريكي على مناطق عند الحدود العراقية السورية، عن مدى حجم الصعوبات التي يواجها النظام السياسي العراقي من هذه الإشكالية التي أزالت آخر ما تبقى من ورقة التوت عن واقعه الهزيل، الذي لا يتناسب مع أبسط مقومات الدولة، ويتعارض مع تصريحات المسؤولين والإصرار بتكرار الإعلان عن قدرة هذا النظام في البقاء على الحياد، في صراع الآخرين على الأراضي العراقية، ليكشف في النهاية عن مدى تخبطه ومن ثم ضياعه في متاهات إشكالية تحالفه المزدوج وغياب موقف الدولة من الحرب التي تشنها الأذرع الإيرانية على التواجد العسكري الأمريكي وتطوره من خلال قصف المواقع الأمريكية للوصول إلى تعزيز التواجد الفارسي في العراق
فتارة تصف الحكومة العراقية هذه الضربات على مواقع الميليشيات بأنها «انتهاك صارخ وغير مقبول لسيادة العراق وأمنه الوطني». وتارة يتم وصف تواجد القوات الأمريكية التي تستهدفها الميليشيات في العراق بالتواجد الشرعي المدعوم من قبل الحكومة العراقية، التي لا تزال تعتمد على القوة الجوية الأمريكية والاستخبارات والاستطلاع والمراقبة للمساعدة في محاربة فلول تنظيم الدولة الإسلامية.
وهنا لابد من الإشارة من ان الهجوم الأمريكي استهدف مواقع ميليشيات ولائية، تتلقى الرواتب من الحكومة العراقية على الرغم من تورطها في هجمات بطائرات مسيرة على قواعد أمريكية، سمح لها النظام العراقي من التواجد في العراق، ليكشف في النهاية عن مدى حجم التناقض في موقف المسؤولين في السلطة.
أضحت إيران اللاعب المُسيطر والمُهيمن على أمن النظام السياسي العراقي، وشريكته التجارية الأكثر أهمية، الأمر الذي يضع العراق في موقع يتعذر تصنيف ولائه ويجعل منه بلدا تائهاً
ففي الوقت الذي يتم وصف الضربات الجوية الأمريكية على مواقع الميليشيات الولائية، من قبل رئيس الوزراء العراقي «مصطفى الكاظمي» بأنها «انتهاك صارخ للقانون الدولي»، ومن ثم رعايته للعرض العسكري للميليشيات الولائية، الذي يعد استعراضا للقوة لا سيما مع عرض للطائرات المسيّرة التي تغير على المواقع الأمريكية، وتأكيده في أن ميليشيات الحشد الشعبي «هو جزء من الدولة»، على الرغم من معرفة الجانب الأمريكي في انها فصائل مسلحة موالية لإيران، يتم استقبال رئيس الوزراء العراقي «مصطفى الكاظمي» من قبل الأمين العام لحلف الناتو «ينس ستولتنبرغ» للتشاور في مجال التقدم الذي تحرزه مهمة الناتو حاليًا في العراق التي تضمن وجود القوات الأمريكية ودول التحالف الدولي في مجال التدريب والمشورة لقوات ومؤسسات الأمن العراقية لمساعدتهم في محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار وبحث الوضع الأمني في المنطقة ومراقبة الانتخابات المقبلة في العراق.
لا شك أن مسألة بقاء النظام العراقي على حافة تقاطع طرق الآخرين لم يعد بالإمكان تفاديه، على الرغم من محاولات بعض الدول العربية العمل بإخراج هذا البلد من موقعه كساحة قتال بين الولايات المتحدة وإيران، ومن ثم جر هذا البلد الغني بثرواته إلى دائرة التحالفات الاقتصادية، انسجاما مع مصالحها الأساسية، على الرغم من ان اللقاء الذي جمع العراق بمصر والأردن يصب في مصلحة أجندات الدولتين أكثر مما يصب في مصلحة العراق المغلوب على أمره، لكونه الحلقة الضعيفة في خريطة شرق أوسط مُتفق عليها، استطاعت مصر والأردن من خلالها التكيف عن طريق علاقتهما المميزة مع إسرائيل، التي وفرت لهما الدعم الأمريكي والدولي.
في الوقت الذي أضحت إيران اللاعب المُسيطر والمُهيمن على أمن النظام السياسي العراقي، وشريكته التجارية الأكثر أهمية، الأمر الذي يضع العراق في موقع يتعذر تصنيف ولائه ويجعل منه بلدا تائهاً على قارعة طرق تقاطع مصالح الآخرين.
وبالرغم على كل ما يمكن أن يثار حول نتائج هذا التوجه الغريب للعراق، إلا أن المخاوف الخطيرة التي تثيرها هذه الازدواجية في التعامل مع الحليفين الأمريكي والإيراني، تكمن في المتاهات التي ستدفع لا محالة بضياع العراق العزيز علينا جميعا في بوتقة الطوائف الدينية والقومية التي تتحكم بها القوى الإقليمية والدولية المارقة التي صنعت الطائفية في هذا البلد، ومن ثم استغلالها لإجهاض التوجه الوطني الهادف إلى بناء الدولة المستقلة الحديثة.
أمير المفرجي
القدس العربي