في العراق ولبنان حراكان شعبيان ناشطان ضد فساد الطبقة الحاكمة في البلدين. وعلى رغم الفارق بين حجم البلدين، والتفاوت بين مواردهما، وبغض النظر، مؤقتاً، عن مقدار النجاح في فرض التنازلات على الحكام هنا وهناك، يلتقي الحراكان العراقي واللبناني على عدد من التقاطعات والنقاط المشتركة تستدعي التأمل.
اولا، كان الصاعق الذي فجّر الغضب الشعبي في الحالين هو الانهيار المروّع في ابسط ما يقع على الدولة تقديمه من خدمات لمواطنيها: الكهرباء في العراق وجمع النفايات في لبنان، مع ان التظاهرات جهرت بالغضب والاستنكار للانقطاع المستمر في التيار الكهربائي، خصوصا بعد ربع قرن على انتهاء الاقتتال الاهلي على رغم الوعود والخطط ورصد المليارات، بحيث بلغت كلّفة فاتورة الكهرباء على المال العام 30 مليار دولار من المال العام.
ثانيا، بعد طغيان الردات المضادة للثورات باشكالها المختلفة، في البلدان التي قامت فيها الثورات، ها هما بلدان لم يعرفا الثورات، يشهدان حركات اجتماعية لا تتوخى بالضرورة اسقاط النظام وانما فرض تغييرات اساسية في الانظمة والسياسات بواسطة الضغط الشعبي السلمي وتراكم الاصلاحات. وما يستدعي التأمل هنا ان الردات المضادة للثورات لم تردع جماهير من ان تغامر بالنزول للشوارع واحتلال الساحات وتنظيم الاعتصامات والاضرابات في مواجهات مباشرة مع السلطات التي لن تتوانى عن استخدام العنف، هي ومليليشيات الاحزاب الحاكمة، وإن كان منسوب العنف لا يزال ضمن حدود الى الآن.
ثالثا، عبّر الحراكان العراقي واللبناني عن ولادة قوى، لا تزال جنينية وهشّة الاندماج، تتجاوز الاصطفاف المذهبي والسياسي الملازم له. والجدير بالملاحظة هو انها تعبّر عن فئات متفاوتة لكنها من ضحايا فترة مع بعد الحرب في البلدين. يساهم فيها الشباب على نحو كثيف، وتتلازم فيها احزاب وتكتلات يسارية، تعود الى عراق ما قبل الاحتلال الاميركي، مع حركات مجتمع مدني ناشئة.
رابعا، الانكشاف المتزايد لدور الدين والطائفية والمذهبية في التغطية على الفساد. «باسم الدين باگونا (سرقونا) الحرامية» هو الشعار المدوّي الذي أطلقته جماهير عراقية. ومقدار ما «باگه» الحرامية يقدّر ببضعة عشرات من المليارات لدى كبار رجال الحكم العراقيين. اما لبنان، حيث تعوزنا الارقام، فليس يقتصر الامر على كون خزائن مصارفه، ذات السرّ المصرفي العتيد، قد تولّت تبييض اموال حكام العراق من ايام صدام حسين ومن خلفه. لا يشكو الفساد في لبنان شيئا من حيث توسله الدين والطائفية والمذهبية للتغطية على الفساد. علّق نبيه برّي، رئيس المجلس النيابي اللبناني، على الحراك الشعبي في اول تظاهراته بالقول «لولا الطائفية، لكانوا جرّونا من داخل بيوتنا». لا أبلغ من هذا القول في تأكيد مبلغ المفاجأة والهلع الذي شعرت به الطبقة الحاكمة في لبنان جراء ما صدر ازاءها من غضب، بل وحقد، على كل افرادها، خلال التظاهرات. لذا كانت قولة نبيه برّي لا تحتاج اي تعليق اللهم الا القول انها الصيغة اللبنانية من شعار «باسم الدين، باگونا الحرامية». .
خامسا، الجديد كل الجدّة، اخيرا، ما قد تحوّل في موضوع الفساد وقد نزل الى الشارع، ولم يعد مادة التكاذب الرسمي في البيانات الوزارية، والإتهامات المتبادلة بين اطراف الطبقات الحاكمة واشخاصها، وقد انتشلته جماهير غاضبة ايضا وخصوصاً من تقارير وتوصيات المؤسسات الدولية، وتوصياتها، لتتسلّمه ايدي الناس، نساء ورجالا، لتحويله الى مادة مساءلة ومحاسبة ومحاكمة وعقاب.
ارتبط موضوع الفساد ارتبطا وثيقا بالعودة القوية لاقتصاديات السوق من خلال التطبيق القاسي، والاستبدادي معظم الاحيان، لاعادة الهيكلة الاقتصادية والخصخصة والتبشير بالحوكمة والشفافية وحكم القانون وما لازمها من اجراءات تنسب الى النيوليبرالية قوامها الشك بالدولة حتى لا نقول تحويلها الى عدو ينبغي قطع دابر تدخله في الاقتصاد.
بناء على هذه المواصفات، كثر التحذير من الفساد وقلّ الحديث عن الافساد. كأن الفساد يتلخص ببضعة الاف او عشرات الآلاف من الدولارات يرتشي بها موظف اداري. ومع ذلك، فنادرا ما تكون مساءلة او محاسبة او عقاب اصلا. والافدح ان الراشي، المفترض انه يملك المال او السلطة او كليهما لاضطراره لتمرير معاملة او صفقة تتم بالتحايل على القانون او على حساب المال العام. لم يقتصر الامر على تغييب الراشي والمفسِد وهو ما يسمح بتفسير كيف يمكن لسياسيين هم رجال اعمال، وشركاء رجال اعمال، واصحاب مصارف وشركات ووكالات ومقاولات، ان يجنوا المليارات من الدولارات في اقصر فترة زمنية ممكنة.
هكذا جرى حرف معالجة موضوع الفساد ومكافحة الفساد والافساد نحو ممارسة ضغط المؤسسات الدولية، بما فيه الابتزاز حول المساعدات والقروض، من اجل خفض نفقات الدولة – ولكن مع تشجيع المديونية! – وتسريح اكبر عدد ممكن من موظفي الدولة والقطاع العام ـ ولكن الزام الدولة على زيادة نفقاتها بالاستعانة إما بخبراء «دوليين» او بعقد الشراكات المكلفة مع شركات القطاع الخاص، ولحساب القطاع الخاص. اما ما تبقّى فلنا التبشير بالشفافية، ودورات التدريب عليها، ناهيك عن دورات التدريب على «اخلاق البزنس»!
لعل الذين بشّرونا بأن الجنّة ستأتينا من تحت «اليد الخفية» للسوق، على مدى ربع قرن، ان يشرحوا لنا اقصى العجب الذي نجد انفسنا فيه الآن،. محرّم على الدولة التدخل في الاقتصاد، ولكنها ملزمة لاستخدام كافة الوسائل، بما فيها العنف، للتشجيع على طغيان اقتصاد السوق وخصخصة كل اوجه الحياة. والدولة محرومة من اي دور في تلبية ابسط ضرورات الحياة من حيث توفير السكن والماء النظيف والعلم والعمل والصحة والاستشفاء للمواطنين، اي انها معطّلة في اداء اي دور في توزيع الحد الادنى من الفرص والامال بالمستقبل، لكن هذه الدولة «الخفيفة» هذه «غير التدخلية» تتحوّل الى آلة فظة منتفخة الموارد متضخمة المهمات قادرة على ممارسة شتى انواع الهدر، والسرقة، والثراء الفاحش للقلة القليلة المتناقصة على حساب الكثرة المتكاثرة.
هذا بعض ما يثيره حراكان يتزامنان ويتقاطعان على مجازفات ومغامرات هي ما يرهص دوما بالامل وبالجديد.
فواز الطرابلسي
صحيفة القدس العربي