معضلة الشخصنة: مكافحة الفساد في مصر.. رؤية القيادة وإشكاليات التطبيق

معضلة الشخصنة: مكافحة الفساد في مصر.. رؤية القيادة وإشكاليات التطبيق

3925

شكل الفسادُ أحدَ المحفزات الرئيسية لحالة الحراك وحركات الاحتجاج السياسي في مصر والتي أدت إلى قيام ثورة 25 يناير 2011، لا سيما وأن الفساد في عهد مبارك طال جوانب عدة مع تداخل الحدود بين عالمي السياسة والاقتصاد في ظل دور رجال الأعمال في إدارة شئون البلاد في تلك الفترة، وانتشار الرشاوى والوساطات على نطاق واسع، وظهور العديد من قضايا الفساد في الدولة، مثل: غرق العبّارة “السلام”، ومشروعات الخصخصة التي أهدرت المال العام، وكذلك الفساد المتعلق بالجوانب المالية، خاصة قانون الضرائب، حتى أن البعض يعتبر تلك الثورة بالأساس ثورة على الفساد.

وفي الوقت الراهن يبدو أن الفساد قد عاد للظهور كرقم مهم في معادلة الحياة السياسية المصرية، حتى أنه كان المحرك الرئيسي للعديد من التفاعلات السياسية التي تشهدها البلاد مؤخرًا، وكان من أبرزها إقالة وزير الزراعة، ثم تغيير حكومة المهندس إبراهيم محلب.

بدايةً تجدر الإشارة إلى أن مفهوم الفساد يعني استخدام الوظيفة العامّة لتحقيق مصالح شخصيّة، أو هو عبارة عن مجموعة من الأفعال التي يقدم على ممارستها شخص أو مجموعة من الأشخاص للحصول على منافع ومزايا بطرق ووسائل مخالفة لما نصت عليه القوانين والتشريعات الداخلية أو الوطنية.

مؤشرات الفساد بعد الثورة:

من اللافت أن هناك العديد من المؤشرات على استمرار ارتفاع معدلات الفساد في مصر بعد الثورة، ومن أهم هذه المؤشرات ترتيب مصر في تقارير المؤسسات المعنية بمتابعة قضية الفساد على مستوى العالم، مثل تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي يحدد ترتيب الدول في سلّم الفساد داخل القطاع العام، معتمدًا على آراء خبراء ومتخصّصين من رجال أعمال وسياسيّين واقتصاديّين. وتلفت متابعة موقع مصر في هذا التقرير خلال السنوات الماضية إلى أنها حصدت المركز 98 من بين 178 دولة شملها تقريرُ المنظّمة عام 2010 بعدد نقاط 31 من المجموع الكلّي وهو 100 نقطة، في حين تراجع مركزها ليصل إلى 112 بعدد نقاط 29 عام 2011، ليرتفع عدد النقاط، ثمّ يصل في عامي 2012 و2013 إلى 32 نقطة، وقد وصل أخيرًا إلى 37 نقطة عام 2014، ورغم تحسن الأداء يبقى الأمر الثابت أنّ ما تحصده مصر من نقاط هو أقلّ من الـ50، أي أنّ معدلات الفساد عالية.

أما تقارير منظمة النزاهة العالمية، فتشير إلى أن مصر احتلت المرتبة 22 عالميًّا لحجم التدفقات المالية غير المشروعة، وهو ما يُمثل تقريبًا 5,2% من إجمالي التدفقات المالية غير المشروعة في منطقة الشرق الأوسط والتي بلغ متوسطها السنوي 72,736 مليار دولار. كما تُشير تقاريرها إلى أن 36% من المصريين دفعوا رشاوى خلال الـ12 شهرًا الماضية، وفقًا لآخر الإحصاءات. وأشارت إلى أن 65% من المصريين يؤمنون بأنهم يستطيعون إحداث تغيير لمواجهة الفساد.

وتتسق تلك التقارير مع المؤشرات المحلية للفساد، ومنها عدد قضايا الفساد التي تم التحقّق فيها، والتي وصلت في عام 2013 -بحسب المتحدّث الرسميّ باسم هيئة النيابة الإداريّة المستشار عبدالناصر خطاب- إلى 151 ألف قضيّة، بزيادة قدرها 80 ألف قضيّة عن عام 2012، وبزيادة تفوق الضعف عن عام 2011.

فيما تُشير تصريحات بعض المسئولين السابقين، مثل عاصم عبدالمعطي وكيل الجهاز المركزيّ للمحاسبات سابقًا ورئيس المركز المصريّ للشفافية ومكافحة الفساد حاليًّا، إلى أن عام 2014 شهد إهدارًا بين 170 و200 مليار جنيه سنويًّا (ما يُقارب 28 مليار دولار) من الموازنة العامّة للدولة البالغة 800 مليار جنيه، نتيجة الفساد، أي ما يقارب 25% من قيمة الموازنة، وهو ما أكّده رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة، حين صرّح بأنّ حجم الفساد الإداريّ والماليّ في مصر يبلغ 200 مليار جنيه سنويًّا.

تكـلفة الفساد وضرورة المواجهة:

يُمكن للمعنيّ بالشأن المصري ملاحظة التكلفة العالية للفساد في البلاد خلال الفترة الماضية، والتي تجلت في مختلف جوانب الحياة، وأهمها قُطْبَا الحياة العامة، أي السياسة والاقتصاد.

فعلى المستوى السياسي، هناك العديد من المؤشرات على ارتفاع تكلفة الفساد التي يتحملها القائمون على إدارة شئون البلاد، حتى إن البعض يتحدث عن تغير في معدلات شعبية الرئيس السيسي والرضا عن أدائه، وهذا ما يفسر -في رأي كثيرين- توجه الرئاسة نحو إجراء تغييرات حكومية، بدأت بإقالة وزير الزراعة، وكان أهمها تغيير الحكومة بالكامل. فقد وَجهت العديد من الجهات الانتقادات لحكومة المهندس إبراهيم محلب بسبب قضايا الفساد خلال العام الماضي، وكان أبرزها قضيتين، هما:

أولا- قضية فساد في وزارة الزراعة، ومن أبرز المتهمين فيها وزير الزراعة المستقيل صلاح هلال، بجانب عدد من المسئولين بالوزارة، يشملهم مدير مكتبه. ووجهت النيابة للمتهمين اتهامات بتلقي هدايا ورشاوى مقابل تقنين إجراءات أرض مساحتها 2500 فدان في وادي النطرون. وقد تم منع النشر بخصوص هذه القضية إلى حين انتهاء التحقيقات بصددها.

ثانيًا- قضية “طالبة صفر الثانوية”، والتي جعلت وزارة التربية والتعليم محلا للكثير من الهجوم بسبب طريقة التعاطي مع الطالبة مريم ملاك، المعروفة إعلاميًّا بـ”طالبة صفر الثانوية”، فالوزير كذّب الطالبة، ولم يتعامل مع قضيتها كما يجب، ما دفع البعض للتشكيك في نتيجة الثانوية العامة، لا سيما وأن الطالبة التي حصلت في الصفين الأول والثاني الثانوي على 96% و97%، تدفع بأنه تم “تبديل” أوراق إجاباتها بأوراقٍ أخرى “نسبت إليها بالتزوير” لصالح أحد أبناء واحد من كبار المسئولين في محافظة المنيا. وإزاء الضجة الإعلامية حول القضية، بادر رئيس الوزراء -وقتها- إبراهيم محلب إلى استقبالها، مؤكدًا دعمه لها، كما قررت النيابة إعادة فتح التحقيق.

وتتزايد حساسية الوضع مع وجود بعض التقارير الإعلامية التي تُؤكد أن السبب المباشر في إقالة حكومة المهندس إبراهيم محلب، هو أن النيابة العامة أرسلت مذكرةً إلى رئاسة الجمهورية تضمنت أسماء عدد من وزراء حكومة محلب للتحقيق معهم في قضايا فساد، على رأسها قضية فساد وزارة الزراعة. وهو ما أدى في نهاية المطاف لقبول الرئيس عبدالفتاح السيسي استقالة حكومة المهندس إبراهيم محلب، وتكليف وزير البترول المهندس شريف إسماعيل بتشكيل حكومة جديدة. وتصل خطورة الأمر إلى حد ما يراه البعض من أن استمرار الفساد بقطاعات الدولة المختلفة قد يؤدي إلى تكرار ثورتي 25 يناير و30 يونيو، لكن بقدر أكبر من العنف، وأن الأوضاع الراهنة حالت دون خروج المواطنين للتظاهر، خشية حدوث فوضى كما حدث بعددٍ من البلدان العربية مؤخرًا.

وعلى المستوى الاقتصادي، فإن أكبر تكلفةٍ للفساد ترتبط بمسألة تقليص قدرة البلاد على جذب الاستثمارات، سواء المحلية أو الأجنبية، فالاستثمار لا يتوقف فحسب على وجود الموارد والأيدي العاملة والمرافق، لكنه ينظر للمناخ العام، فالشركات متعددة الجنسيات تشترط في تعاملها مع الأفراد أو الدول عدم وجود أية صور للفساد في التعامل حتى لا تؤثر على التعاقدات. وبمنطق تكلفة الفرصة البديلة، فإن انتشار الفساد في القطاعات ذات الصلة بقوانين الضرائب بصورها المختلفة، يؤدي إلى خسارة الاقتصاد المصري العديد من فرص الاستثمار بسبب الخوف من المخاطر، وارتفاع تكلفة الاستثمار. ومن ثمَّ فالسبيل الوحيد أمام الدولة لعودة الاستثمار يتطلب الإسراع في تجفيف منابع الفساد لخلق المناخ الصحي لتعافي الاقتصاد، وزيادة معدلات الإنتاج.

أما على المستوى الاجتماعي، فإن تكلفة الفساد ترتبط بزيادة حدة التفاوت الاجتماعي، ودور الفساد في تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، نتيجة تفوق منطق الزبونية والمحسوبية على العدالة في توزيع الثروة على المواطنين، مما أدى لانتشار السلوكيات غير المحمودة داخل المجتمع مثل الرشوة والسرقة والعمولة. وتكمن الخطورة الحقيقية للفساد اجتماعيًّا في هدم القيم والأخلاق والمُثُل، والاعتياد على الفساد نتيجة ذيوعه بشدة في المعاملات اليومية، سواء الحكومية أو غير الحكومية.

 رؤية القيادة السياسة

يُمكن القول إن القيادة السياسية الحالية تُبدي اهتمامًا واضحًا بملف مكافحة الفساد والقضاء عليه، ووفق رؤية الرئاسة هناك محوران رئيسيان لمحاربة الفساد؛ الأول يتمثل في المواجهة الأمنية والملاحقة القضائية، أما الثاني فيمر عبر إطلاق حزمةٍ من التشريعات والقوانين واعتماد التكنولوجيا الحديثة. وفي إطار هذين المحورين تم اتخاذ العديد من الخطوات، لعل أبرزها:

1- إصدار تشريعات لمحاربة الفساد، في مقدمتها القانون رقم 89 لسنة 2015، بشأن حالات إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم. وإصدار مشروع قانون الإدارة المحلية الجديد، والذي يهدف إلى إعطاء المسئولين بالحكومة وجميع أجهزة الدولة سلطات واسعة تمكنهم من التفتيش والمراقبة الداخلية لكشف أي قضايا فساد. كما صدرت تعديلات على قانون الكسب غير المشروع تقضي بتعيين الدولة مديرًا للأموال المتحفظ عليها في قضايا الفساد، ومن بينها قضايا الكسب غير المشروع.

2- استحداث منصب مستشار رئيس الجمهورية لمكافحة الفساد، واختير له محمد عمر هيبة، رئيس هيئة الرقابة الإدارية السابق، لمتابعة وضمان تحقيق التعاون والتنسيق بين هيئة الرقابة الإدارية ومختلف الأجهزة الأمنية.

3- أعلنت هيئة الرقابة الإدارية عن إطلاق مبادرة بعنوان “الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد”، ونصت المبادرة على استعادة ثقافة العدل والشفافية والنزاهة والولاء، والعمل على الحد من الآثار السلبية للفساد على كافة القطاعات (الإدارية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية)، ونشر الوعي بهذه الآثار، ورفع قدرات أجهزة مكافحة الفساد، والتعاون مع كافة الجهات المعنية المحلية والإقليمية والدولية في مكافحة الجرائم المتعلقة به، مع مراعاة المعايير الدولية وأفضل الممارسات.

4- تعدد الملاحقات القضائية، كقيام جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية بإحالة أحد كبار رجال الأعمال إلى النيابة العامة بتهمة الممارسات الاحتكارية. فضلا عن إلقاء القبض على برلماني سابق بتهمة طلب والحصول على رشوة بقيمة مليون جنيه مصري مقابل تنازله عن دعوى كان رفعها لبطلان بيع أرض شركة النيل لحلج الأقطان. وتظل عملية إلقاء القبض على وزير الزراعة السابق مباشرة عقب استقالته، نموذجًا غير مسبوق في هذا الصدد.
إشكاليات التطبيق

بيد أن استقراء المشهد العام يشي بأن هناك عددًا من الإشكاليات التي ربما تعيق جهود محاربة الفساد في مصر في الوقت الراهن، منها:

أولا- إشكاليات مؤسسية: تتعدد الجهات المنوط بها التصدي للفساد لتشمل: هيئة الرقابة الإدارية، وهيئة النيابة الإدارية، وجهاز الكسب غير المشروع، ووحدة مكافحة غسيل الأموال، ومكتب النائب العام، والجهاز المركزي للمحاسبات. بيد أن صلاحياتها في هذا السياق يعتورها العديد من المثالب كالتداخل بين صلاحياتها. كما أن جميع تلك المؤسسات غير مستقلة، فهي إما تابعة لرئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء، أو وزارة العدل.

ورغم أن الأجهزة الرقابية تقوم بدورها، فإن هذا الدور غير مرضٍ في رأي كثيرين، فهي تصدر تقارير سنوية إلا أنها غير معلنة، كما أن قضايا الفساد التي تضبطها فردية، ولا تصدر إحصائيات عن القضايا التي تنظرها ونتائجها وما تم فيها.

ثانيًا- إشكاليات تشريعية: يرتبط بعدم وجود استراتيجية متكاملة لمكافحة الفساد، فالاستراتيجية المعمول بها في ظل الحكومة السابقة لم تزد عن كونها خطوطًا عريضةً بدون تفاصيل كافية، فضلا عن أنها صِيغت دون مشاركة كل الجهات المعنية بها، وأن من وضعوها لهم فكر رقابي وليس علاجيًّا إصلاحيًّا. فيما توجه انتقادات لبعض القوانين التي تم سنها في هذا السياق، كالقانون رقم ١٦ لسنة ٢٠١٥ الذي يجيز التسوية الودية والصلح مع مرتكبي جنايات الاعتداء على مصالح الدولة، حيث يرى كثيرون أن التصالح مع أولئك “الفاسدين” بحكم هذا القانون سيكون أعلى مرتبة من أي حكم قضائي، وهو ما سيجعل للسلطة “التنفيذية” لا القضائية القول النهائي في جرائم المال العام.

ثالثًا- إشكاليات خاصة بالتطبيق. وهي تدور بالأساس حول عدم محاسبة مبارك ورموز نظامه في قضايا الفساد التي تم تسليط الضوء عليها، رغم وجود الإطار التشريعي الملائم لذلك، أي القانون رقم ٣٤٤ لسنة ١٩٥٢ المعدل بالقانون رقم ١٧٣ لسنة ١٩٥٣ الذي عرف “بقانون الغدر” رغم التعديلات التي أدخلتها عليه وزارة عصام شرف ليصبح أكثر معاصرة وتماشيًا مع الأعراف الدستورية والقانونية (أقرت التعديلات في ٢١ أبريل ٢٠١٢)، فقد غاب هذا القانون عن محاكمات مبارك ورجاله. فضلا عن وجود العديد من علامات الاستفهام حول المسئولين عن استرداد الأموال المهربة خلال عهد مبارك؛ إذ يجب عليهم رفع قضايا بخصوص الأموال المهربة، وإصدار أحكام نهائية بشأنها غير قابلة للطعن عليها، وتقدم تلك الأحكام إلى البنوك أو الشركات التي أودعت بها الأموال، وبناء عليها تسترد الدولة الأموال، وهو ما لم يتم حتى الآن.

وختامًا.. هناك عدد من التوصيات التي ربما يكون على صانع القرار وضعها في الاعتبار في معرض جهود محاربة الفساد، أهمها:

1- ضرورة إنشاء المفوضية العليا لمكافحة الفساد المنصوص عليها في الدستور، بحيث تتولى وضع استراتيجية متكاملة لمكافحة الإرهاب، وتنسيق الجهود بين الجهات المعنية، فضلا عن مراجعة الأُطر التشريعية اللازمة.

2- اختيار وجوه نزيهة وفوق الشبهات لتتصدر مشهد المعركة ضد الفساد.

3- عدم “شخصنة” مكافحة الفساد حتى لا تتحول المعركة من التصدي لظاهرة الفساد في حد ذاتها إلى ملاحقة أشخاص بعينهم، دون أن يترتب على ذلك تغيير حقيقي، وهو ما يجعل تكرار الفساد حتميًّا ولكن بوجوه جديدة.

د. مروة نظير

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية