شهدت الصين خلال الأسابيع الماضية احتفالات واسعة بمناسبة مرور 100 عام على ميلاد الحزب الشيوعي في 1921، الذي يحكم البلاد منذ 72 عاما. جاءت الاحتفالات غير مسبوقة في أفكارها وأحجامها وأروعها ما شاهدناه في ساحة “تيانانمين”، أمام بوابات المدينة المطلة على رفات الزعيم ماوتسي تونغ وسط مدينة بكين، حيث مبنى مجلس نواب الشعب والساحة العظيمة التي تتسع لنحو نصف مليون شخص.
حشّد الحزب الشيوعي تشكيلات عسكرية ضخمة، قدمت عروضا مبهرة للطائرات المسيرة، والطائرات النفاثة والصواريخ الحاملة للأقمار الصناعية، والقنابل العابرة للقارات، والألعاب النارية، ومعدات تكنولوجية تتشارك كلها في كتابة رقم 100 تحت سماء العاصمة. العروض المبهرة التي شارك فيها نحو 22 ألفا من قوات الجيش والحزب، تلتها احتفالية أكثر إبهارا على أرض استاد “عش الطائر” موطن أولمبياد بكين 2008، التي شارك فيها نحو 50 ألفا من قادة وشباب الحزب والجيش الصيني.
لم تأت الأجواء الأسطورية التي مازالت تعرض عبر الإعلام الصيني من فراغ، فالمشاهد لها يدرك حجم الرسائل التي أراد الرئيس شي جين بينغ توصيلها للشعب والعالم، التي أعلنت عن نفسها في كل فقرة من فقرات الاحتفال. أعلن شي جين بينغ، أن “الصين تشهد مسيرة تاريخية لا رجعة فيها للوراء، وأن زمن التنمر والمعاناة والاضطهاد للصينيين قد ولى”. وعبرت كل أغنية عن أمجاد الحزب الشيوعي، الذي “مكّن الشعب من القضاء على الفقر، وحقق السعادة والرخاء”. وسط حالة النشوة بالانتصار، ودعوة الجماهير إلى احتساء النبيذ احتفاءً بهذا النصر، برزت رسالة مهمة وهي ضرورة أن يطيع الجيش والشعب تعليمات الحزب، لأنه الوحيد القادر على الانتصار في المعركة، فالحزب كما تقول أغنية “الإرشاد” التي جاءت في خاتمة حفل ضخم استغرق نحو الساعتين: أيها الحزب الشيوعي أرشدنا، أنت في ريعان الشباب، تقف قويا في مسيرة العصر الجديد، أرشد الأمة الصينية إلى المستقبل المشرق، فلولا أنت لما كانت هناك الصين الجديدة. الاستعراض المهيب الذي حمل عنوان “المسيرة العظيمة” لم يبشر بانتصار الحزب في مسعاه، الذي بدأه منذ مئة عام فحسب، بل جاء لدفع الناس إلى ” الإيمان بـ”إله الصين الجديد” فالحزب في نظر القائمين عليه ووفقا لشعرائه ومنظريه من الساسة والمفكرين، هو الذي يرشد الشعب وهو مصدر العظمة ووجود الصين ذاتها”. وهذا التبشير غايته التسليم التام من الشعب بأن أمين عام الحزب وممثله، شي جين بينغ هو الابن الشرعي لهذا الإله، وهي أمور فلسفية يعلمها الصينيون وفقا لعقائدهم الكونفوشية القديمة، فالإمبراطور الذي كان يحكم البلاد عبر الأسر المختلفة لمدة أكثر من 3000 عام، يكني بـ”ابن السماء”. هذا الارتباط العاطفي من حزب لا يدخله إلا من يعلن إلحاده مسبقا، بقسم على ولائه للنظرية الماركسية اللينينية، لم يأت من فراغ، فقد أدرك قادة الحزب قبل ميلاده رسميا عام 1921، أن الأمة الصينية التي انهارت أمام الغزو الأجنبي، بعد حرب الأفيون منتصف القرن الثامن عشر، وهزيمتها أمام اليابان، في حاجة إلى تغيير عقيدتها الكونفوشية القائمة على الوسطية والبساطة إلى تحقيق الذات، وتجديد شباب الصين، وإعادة كرامتها التي فقدتها خلال المئة عام، التي سبقت الحرب العالمية الأولى. وتعدد الرؤى بين القوى السياسية التي رأت ضرورة أن تسد الصين الفجوة الحضارية مع الغرب، وتحديث مصانعها، ولكن جميعها كانت مدفوعة بمشاعر وأفكار قومية لا لبس فيها. فقد تعلم سون يات صن مؤسس الحزب الشيوعي داخل “حركة التعزيز” التي طالبت بمنع انزلاق الصين نحو التخلف، نهاية القرن التاسع عشر، وتتلمذ أول رئيس جمهورية للصين الشعبية ماوتسي تونغ على يد سون يات صن وخليفته دونغ شياو بنغ، على يد فلاسفة الحركة نفسهم. وظل الحزب الشيوعي متأثرا بأفكار ماركس التي تعلمها شبابه من الذين درسوا في فرنسا، مطلع القرن الماضي، مدفوعا بالرغبة القومية الجامحة. لذلك لم يكن هناك تأثير للفكر الشيوعي الروسي على الحزب الشيوعي الصيني، وكان حليفا في بدايته للولايات المتحدة، التي ساعدت الصين على الحصول على حقها في الاستقلال عن الاستعمار الياباني، واستعادة هونغ كونغ من إنكلترا، وماكاو من البرتغال وتايوان، ومنحها مقعدا دائما في مجلس الأمن، باعتبارها من القوى الكبرى التي شاركت في تحالف المنتصرين في الحرب العالمية الثانية. وافترق الحلفاء بعد أن اتجه الحزب الشيوعي الصيني إلى مساره نحو تأميم الثروات، وتطبيق المبادئ الشيوعية في أسوأ أشكالها.
قبضة الصين القوية يتغاضى البعض عن شدتها، لأنها وحدتهم، وحققت الثروة، وهما الهدفان اللذان يسعى إليهما الصينيون
فالصين كانت مستقلة قبل الحزب، والآن عادت هونغ كونغ وماكاو ولم تعد تايوان، فأصبح استقلالها ناقصا. والتصنيع كان يسير انطلاقا من شانغهاي مهد ميلاد الحزب الشيوعي، فكانت تسمى باريس الشرق، دمّرها الشيوعيون بعد أن قضوا على الرأسمالية الوطنية، وفرص النمو لثلاثة عقود. أدت سياسة الحزب إلى موت 45 مليون صيني في المجاعات، أثناء “مسيرة الوثبة الكبرى”، التي انطلق بها الشيوعيون من الجنوب إلى الشمال والشرق للقضاء على الديمقراطيين، شركائهم السابقين في الهدف والسلطة، وبلغت المأساة حدتها بين أعوام 58 إلى 61 حين أمم الحزب كل الأراضي والأموال، وقضى على النبلاء والطبقة الوسطى ودفع بالمتعلمين إلى الأرياف، بينما وضع نظاما حرم فيه الفلاحين حتى الآن من حرية العمل والانتقال للمدن بدون موافقة من أعضائه في الأقاليم.
استهدف الحزب في بداية تأسيسه ديمقراطية الشعب، فأوقف بذلك مسيرة الصين نحو الديمقراطية الدستورية، وقد نشأت في الصين أول جمهورية في آسيا، التي أعلنت بعد هزيمتها في حربها الأولى مع اليابان، وفيها مجتمع مدني نشيط وصحافة حرة ومدارس وجامعات ونقابات، كانت جميعها المنبع الذي ولدت فيه أفكار الحزب الشيوعي، وتعلمت فيها قياداته التي تنتمي أغلبها إلى الطبقة الوسطى والعليا. صنف الحزب الناس إلى ملاك وأغنياء معادين للثورة، وجرّدهم من حقوقهم في التعليم والعمل، واقتلع الثقافة الصينية الكونفوشية بالقضاء على المثقفين، وأعاد تشكيل العقلية الصينية، بما يبرر احتفاظه بالسلطة، خاصة بعد أن سقطت الأيديولوجية الشيوعية في مهدها الأول بالاتحاد السوفييتي، فأعاد العمل بالتوجه القومي للصين الذي كان جزءا لا يتجزأ من تاريخ الصين الطويل. في الطريق إلى “المسيرة العظيمة” التي بدأت منذ 42 عاما عاد الحزب الشيوعي إلى مساره القديم الذي نشأ من أجله، وهو إعادة ابتكار الذات وتحقيق الثروة والسلطة، وهي الأفكار التي جددها المهندس دونغ شياو بنغ، الذي آمن بها قبيل ميلاد الحزب الشيوعي، ورأي أنها الطريق المثلى للقضاء على المجاعات في البلاد، وإعادتها إلى المسار الصحيح. ورغم أن أفكاره في الأخذ بالمبادئ الرأسمالية في إدارة اقتصاد البلاد مناقضة تماما لمبادئ الحزب الشيوعي، فإن نجاح مشروعه جعل الصينيين يتوجهون إلى تطبيق المفاهيم الرأسمالية في الاقتصاد، بينما ظل الجزء الآخر من المبادئ الليبرالية الحاكمة لاقتصاد السوق ملاحقا من قيادات الحزب الشيوعي، خاصة في عهد الرئيس الحالي شي جين بينغ. فقد وظف شي النجاح الاقتصادي في رفع تنمية المشاعر القومية لدى الصينيين، ونمو الشعبوية داخل المجتمع الصيني في تعارض مع ما يدعيه بالتصالح مع الفلسفة الكونفوشية، وتحول الحزب من مدير مخطط للاقتصاد إلى تكتل ائتلاف حاكم للمشروعات الاقتصادية، ولذلك ضم إليه نخبة من رجال الأعمال، وأصبح تكتلا عائليا يضم عشرات الملايين من شباب الأسر الأعضاء فيه، ولم يعد غريبا أن نشاهد سنويا محاكمات لمئات الآلاف من قياداته التي استغلت وظائفها الحزبية في تحقيق ثروات طائلة، مع الاستغلال المفرط للسلطة، والفساد السياسي. وظهر جليا أن الصين الاشتراكية أصبحت وطنا لأغنى 5 ملايين مليونير في العالم، منهم 21 ألف مليونير تزيد ثروات كل منهم عن 50 مليون دولار، في الوقت نفسه هناك تبرم شديد من الشباب الباحث عن فرص للعمل، وعدم العدالة في توزيع الثروة بين المواطنين.
هذه القبضة القوية يتغاضى البعض عن شدتها حاليا، لأنها حققت الكثير من النجاح في توحيد الصين، وتحقيق الثروة، وهما الهدفان اللذان يسعى إليهما الصينيون منذ مئة عام، فهل يصمد الحزب الشيوعي إذا لم تعد تايوان للوطن الأم وانخفضت الدخول وقلة الأعمال.
عادل صبري
القدس العربي