مع التفجير الانتحاري الذي استهدف «مدينة الصدر»، شرق بغداد، عشية عيد الأضحى، ينشط الرأي العام العراقي لتفسير مثل هذه الحوادث بوصفها «رسائل سياسية»؛ ستبقى «تتكرر» حتى موعد إجراء الانتخابات في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
ويسود الشارعً وفعاليات اجتماعية واسعة مزاجٌ سلبي حيال الاستحقاق الانتخابي، ذلك أن الأخير خرج تماماً عن سيطرة ما تعرف بـ«قوى التغيير والإصلاح»؛ على رأسها «حراك تشرين»، وحلفاء غير موحدين سوى برغبتهم في معادلة جديدة للبرلمان الجديد.
ويتفق كثيرون ممن ينشغلون بالحسابات الانتخابية على أن اقتراع أكتوبر المقبل هو الأكثر تعقيداً بين كل الجولات السابقة منذ عام 2003؛ إذ تحيطه سيناريوهات صعبة، مهما كان الفائز والخاسر فيه، في معادلة مركبة وسباق سياسي غير معهود.
لكن القوى الأساسية تصر على إجرائها في موعدها هذا العام، مدفوعة بحماسة كبيرة لتحقيق حضور تشريعي واسع، لا سيما الأجنحة السياسية الممثلة للفصائل الشيعية المسلحة؛ إذ ترى أن الانتخابات المقبلة فرصة متاحة لزيادة نفوذها في السلطتين التشريعية والتنفيذية، فضلاً عن رغبة معلنة في إنهاء ولاية الخصم اللدود؛ مصطفى الكاظمي.
وتتداول قيادات شيعية مقربة من إيران فرضيات مختلفة للتعامل مع الكاظمي، الذي لا يرونه سوى رئيس وزراء مضر بمشروع «الحشد الشعبي»، من بينها الصبر عليه حتى الانتخابات، ومنعه من لعب أدوار استراتيجية، غير تنظيم الانتخابات ومواجهة وباء «كورونا».
والكاظمي نفسه يدرك جيداً أنه رئيس وزراء لـ«إجراء الانتخابات» وتأمين ظروفها في الموعد المتفق عليه حالياً، لكنه يضمر نهجاً سياسياً يمنع الفصائل المسلحة من الاستحواذ على الدولة ومؤسساتها، ولو بخطوات تتدفق على نحو بطيء، لشدة واقعيتها.
وفي كل مرة يصل فيها التوتر بين الكاظمي والفصائل إلى أقصاه، كان مشروعاهما المتضادان يتواجهان في لحظة صِدام لم ينجح أحد في السيطرة عليه، كما في حوادث اعتقال أفراد من «خلية الكاتيوشا»، أو اعتقال القيادي في الحشد قاسم مصلح.
لكن الكاظمي اختار، أخيراً، أسلوباً مغايراً، حين كشف عن هوية قاتل الباحث هشام الهاشمي، دون الإعلان عن الجهة التي كلفته بالاغتيال، ذلك أن البيان الرسمي تضمن إشارة إلى أن المجموعة المكلفة الاغتيال انطلقت من منطقة «البوعيثة»، وهي مركز عمليات نشط للفصائل المسلحة. وكان هذا تلميحاً مكثفاً للغاية، تلقفه الرأي العام العراقي بالتصويب الجريء نحو الفصائل.
وفي مناخ الصدام ذاته، تجري التحضيرات السياسية واللوجيستية للانتخابات، في سباق سرعة يتعدد فيه اللاعبون، وتتقاطع المصالح بينهم، لا سيما القوى الشيعية التي أرهقتها متغيرات جامحة منذ اندلاع الحراك الاحتجاجي العام الماضي.
وأزيح «حراك أكتوبر (تشرين الأول)» من لائحة طويلة لمحركات التغيير السياسي والاجتماعي. هذا ما يعتقده صناع القرار السياسي، لا سيما في صالونات القوى الشيعية الكبرى. وعملياً؛ فإن «الرياضيات» الانتخابية التي تعمل على وضعها تلك القوى لم تعد تنتج معادلات متغيرة كثيراً بسبب جمهور الاحتجاج.
ويقول الناشطون إن مقاطعة الانتخابات تهدف إلى تأجيلها إلى موعد آخر في ظروف آمنة أكثر، في محاولة لتفويت الفرصة على الجماعات المسلحة في الاستحواذ على المقاعد التشريعية. لكن هذا القرار لا يبدو سوى رسالة احتجاج أكثر منها خطوة عملية من شأنها التأثير على مسار القوى النافذة.
ويرى الناشطون، الذين حاولوا قبل شهور تنظيم أنفسهم انتخابياً، أن الجماعات المسلحة مارست «إرهاباً» غير مسبوق ضد ممثليهم السياسيين عبر الملاحقة والتصفية والاختطاف، أثمر نكوصاً عاماً لدى الجمهور، ومنع كثيرين من الانخراط بحرية في المطبخ الانتخابي بشكل آمن.
وعلى مدى الشهور الماضية، نظمت الفصال الشيعية اجتماعات تنسيقية لبحث المعادلات الانتخابية، وفرص التحالف، وطرق التخلص من المنافسين المستقلين الذين قد يجذبون جمهوراً خارج الاستقطاب السياسي. لكنها، ومع ظروف المقاطعة، لا تخفي عدم الاكتراث باقتراع لا تتجاوز نسبة المشاركة فيه 40 في المائة، على غرار جولة 2018.
لكن نقطة التحول بالنسبة للمقاطعين كانت عندما قرر زعيم «التيار الصدري» الانضمام إليهم، حين ترجل من السباق في لحظة حاسمة، وفي طريق خروجه رفع اليد عن حكومة الكاظمي، وقلب المعادلة باتجاه تأجيل الانتخابات، بوصفه تحصيل حاصل.
والمقاطعون على طريقة «حراك تشرين» لا يرون نقاط تشابه جوهرية مع مقاطعة الصدر. ذلك أنه كان يحاول «إعادة تسجيل» نفسه في السباق بظروف مختلفة تخدم حظوظه وهدفه في الحصول على أغلبية داخل البرلمان، تمنحه الأرجحية في تشكيل الحكومة.
ويستبعد خصوم الصدر حصوله على 100 مقعد في الانتخابات، لكنهم يرون مقاطعته الانتخابات ضربة موجعة لخططهم، ونسفاً للصياغات التي ثبتوها منذ شهور لشكل الاقتراع ومعادلات النتائج المطلوبة، والتي لا تسمح بتغييرات كبيرة في موازين القوى، في أسوأ الأحوال.
وهنا؛ تبدو خطوة الصدر ماكرة للغاية في إحراج خصومه الراغبين في إجراء الانتخابات؛ فبينما يضغطون عليه للعدول عن قراره والعودة إلى حلبة الانتخابات، فإنه سيرغب كثيراً في استثمار ذلك لفرض شروطه على المشهد، والعودة بأوراق رابحة جديدة، من بينها كسب الشارع المحتج، وتخفيف الخناق عن رئيس الوزراء، وفض الاشتباك الشيعي – الشيعي لصالحه.
لكن خطورة الانتخابات المقبلة تكمن في طبيعة نتائجها. ومهما كانت؛ فإن خسارة أو فوز طرفي النزاع سيترك البلاد أمام بؤر توتر جديدة ومستمرة. ففي حال فوز الممثلين السياسيين للفصائل المسلحة، فإن طليعة اجتماعية ناشئة ستبقى تحرك جبهة المعارضة والاحتجاج، بوصفها غير ممثلة في البرلمان.
أما خسارة الفصائل المسلحة، فإنها تعني تفعيل التوتر إلى درجات غير معهودة، من الممكن أن تبدأ بالطعن في الانتخابات، وقد تنتهي بضرب الحد الأدنى من التهدئة بين الفاعلين الشيعة.
صحيفة الشرق الأوسط