سد النهضة، ما بعد الضرر

سد النهضة، ما بعد الضرر

تقول إثيوبيا إنها أنجزت أكثر من 80 في المئة من إنشاءات سد النهضة. وحيثما بلغت التعبئة الحدود القصوى للإنشاءات الحالية، فإن استكمال أعمال البناء سوف يتطلب انتظار صيف العام المقبل. وبمقدار ما يتعلق الأمر بالموسم الحالي، فإن كل فائض المياه يتعين أن يعبر من فوق حافة السد العليا.

هذه الإمكانية تتيح للسودان أن يعوض النقص الفادح الذي تعرض له سد الروصيرص.

سد النهضة يحتجز الآن نحو 74 مليار متر مكعب من المياه، وتحتاج إثيوبيا أن ترفع المنسوب إلى نحو 100 مليار متر مكعب، لكي يمكنها أن تُشغّل توربينات إضافية لتوليد الطاقة الكهربائية، وهو ما يعني عبور المزيد من المياه إلى بلدي المصب.

الفتحتان الراهنتان لعبور المياه لا تكفيان لتسديد حصة مصر البالغة 55 مليار متر مكعب سنويا، ولا حصة السودان البالغة 18 مليار متر مكعب سنويا. ولكن إضافة فتحة ثالثة يمكنه أن يسدد النقص. وإثيوبيا تحتاج في نهاية المطاف:

أولا، أن تترك فائض المياه يعبر من فوق حافة السد، لأنها لا تستطيع تخزينه من الأساس.

ثانيا، أن تفتح معبرا آخر أو أكثر لتشغيل توربينات توليد الطاقة.

هذا يعني في النهاية، أن المشكلة الحقيقية ليست في السد نفسه. وإنما في عجز بلدي المصب عن الاستفادة من الفائض.

الضرر الذي وقع حتى الآن، ثبت أنه محدود. لاسيما بانخفاض منسوب المياه خلف الروصيرص بنحو النصف. ويتسع هذا السد لنحو 7.5 مليار متر مكعب. بينما تتسع بحيرة ناصر، خلف السد العالي لنحو 164 مليار متر مكعب (32 مليار منها معدوم الفائدة). وفي حين أن مصر يمكن أن تنجو لنحو عامين، إذا انقطعت إمدادات النيل الأزرق، فإن السودان لن ينجو إلا لبضعة أشهر.

الأزمات التي عاشتها مصر والسودان خلال العقدين الماضيين، هي التي عطلت القدرة على إيجاد حلول. وهو ما لم يعد له مبرر الآن

المصريون يبحثون عن حلول منذ عدة عقود للاستفادة من مياه النيل التي تدخل البحر الأبيض المتوسط. وهي فاقد صاف، ولا مبرر له. إقامة سدود صغيرة وترع، يمكنها أن توفر ممرات حيوية لاستغلال نهايات النيل. ولئن كان يبدو أن رفع المياه إلى مستويات أعلى عقدة اقتصادية في حالة الحاجة إلى كهرباء، فإن العبقرية الإنسانية حلت هذه المشكلة منذ ما قبل التاريخ، باستخدام النواعير.

وتنصيب نواعير تتناسب مع قوة دفع المياه، ليس عقدة هندسية، ولا هو عقدة اقتصادية أصلا، لأنها لا تحتاج إلى كهرباء. كل مليار متر مكعب يمكن استغلاله عبر هذه الطرق، هو مكسب صاف من ذلك الفاقد الصافي. ومثلما أن دولا عدة تنشئ خزانات مكشوفة أو مغطاة لحفظ المياه، فإن جهدا هندسيا أقل تعقيدا، يمكنه أن ينشئ خزانات في مصر والسودان لحفظ وتوزيع المياه، وهو ما يسمح بتوسيع الأراضي الصالحة للزراعة أيضا.

الأزمات التي عاشتها مصر والسودان خلال العقدين الماضيين، هي التي عطلت القدرة على إيجاد حلول. وهو ما لم يعد له مبرر الآن. وفي الواقع فإن الاستثمارات في تخزين وتوسيع استخدامات الفائض ليست باهظة التكاليف، ولكنها تحقق عائدات ضخمة، وتوفر على البلدين التورط في مخاطر جسيمة.

لا شيء يبرر الجدال حول حقوق مصر والسودان في مياه النيل. كما لا شيء يبرر الجدال في حق هذين البلدين أن يحصلا على اتفاق ملزم يضمن لهما حصتهما من مياه النيلين. ولكن لا شيء يبرر ثقافة الكسل حيال المخاطر. ولا شيء يبرر الاتكالية التي ظلت تنظر إلى النيل على أنه كائن مقدس لا يعتريه التغيير.

التغير المناخي الذي جعل ألمانيا وبلجيكا والصين، وغيرها مما سيأتي، عرضة لفيضانات خطيرة، يمكنه أن يعني أن بلدانا أخرى سوف تتعرض لموجات جفاف مروّعة.

المصريون يقرأون كل يوم قصة يوسف في القرآن الكريم. ويعرفون ما قد تعنيه سبع سنوات عجاف يأكلن بقراتهم السمان. ولكنهم منذ عهد الهكسوس (بين عامي 1615 – 1560 ق.م)، لم يفعلوا إلا القليل لضمان النجاة. السد العالي ربما كان هو الشيء الوحيد على امتداد هذا التاريخ. أي على امتداد 3000 عام.

ولا يحتاج المرء أن يكون ضليعا في علوم المناخ لكي يفهم أن الأمور لن تبقى كما هي لثلاثة آلاف عام أخرى. التاريخ لا يتحمل الهبل ولا الكسل ولا الاستهبال.

بعض الفنتازيا يذهب إلى حد البحث عن سبيل لنقل المياه إلى النيل من حوض الكونغو الذي تشترك به 9 دول أفريقية، بينما جنوب السودان يغرق بفائض مياه يصل إلى نحو 550 مليار متر مكعب سنويا.

الاستثمارات المصرية يجب أن تمتد إلى أوغندا نفسها، حتى ليمكن ربط البلدان الأربعة (مصر والسودان وجنوب السودان وأوغندا) بسلسلة من المشاريع المائية والكهربية

هذا بلد فقير. وروابطه بالسودان ما تزال قوية، حتى أن الكثير من مواطنيه ما يزالون يعتبرون أنفسهم سودانيين، ويتمنون لو أن بلدهم عاد ليكون جزءا من سودان ديمقراطي. ولكن بهذا أو ذاك، فإن إعماره والاستثمار في فائض المياه وبناء سدود فيه لتزويده بالطاقة الكهربائية والمساهمة في تنميته، هي أفضل سبيل لضمان بقاء هذا البلد قريبا من جيرانه، وترتبط مصالحه الحيوية بمصالحهم.

وفي الواقع، فإن هناك اتفاقات بين مصر وجنوب السودان في مجالات استغلال موارد المياه، إلا أنها اتفاقات مخجلة بكل معنى الكلمة. واستثماراتها لم تتعد حتى الآن 26 مليون دولار.

البلد الذي يشق النيل الأبيض أراضيه من الجنوب إلى الشمال، يستحق أكثر من ذلك بكثير. يستحق أن تبنى فيه سدود، وأن تتوفر له استثمارات لإنتاج الطاقة، وليس للبحث “عن مصادر المياه الجوفية”. هذا استهبال حقيقي. بل إن الاستثمارات المصرية يجب أن تمتد إلى أوغندا نفسها، حتى ليمكن ربط البلدان الأربعة (مصر والسودان وجنوب السودان وأوغندا) بسلسلة من المشاريع المائية والكهربية وغيرها من مشاريع التنمية. بل وحتى ليمكن النظر إليها كوحدة اقتصادية تنموية واحدة.

لقد انتهينا من كوابيس نوم طويل، بأزمة مع إثيوبيا، وكاد الأمر يبلغ حد التهديد بالحرب. وبعد أقل من 20 سنة أخرى، سوف نصحو على أزمة مع أوغندا وجنوب السودان، لو أن النوم طال.

يكفي هبلا مع الأيام، ويكفي استهبالا مع الجيران. جهدٌ مّا حقيقي يجب أن ينهض الآن. نحن نقرأ سورة يوسف منذ أكثر من 1400 عام. ولكن اقرأها، مرة واحدة إضافية، لعلك تفهم، قبل أن تموت بقراتك في السنوات العجاف.

العرب