عاد ملف سد النهضة إلى الواجهة من جديد بعد أشهر على خفوت الأزمة، حيث من المقرر إجراء جولة جديدة من المفاوضات وسط آمال ضعيفة بحصول اختراق، في ظل تمسك مصر وإثيوبيا والسودان بمواقفها.
القاهرة – لا تزال أزمة سد النهضة الإثيوبي تمثل عنصرا كامنا ومهما في مسألة الأمن والسلم الإقليمي، وحلها يقلل من المخاطر التي يمكن أن تشهدها المنطقة حال استمر التباين في الرؤى والتقديرات، ولذلك لم تغب عن ذهن من تهمهم الأزمة وتداعياتها والمتابعين لها في حالتي التسوية والتصعيد.
وبدأ الملف يتسلل مرة أخرى إلى الأضواء بعد صدور بيان من مجلس الأمن الدولي الأربعاء يحض على التفاوض بين الدول الثلاث، مصر والسودان وإثيوبيا، والتوصل إلى اتفاق مُلزم تحت مظلة الاتحاد الأفريقي.
وشرعت الكونغو الديمقراطية في التحرك وإعادة الزخم إلى الملف الذي خفت الحديث عنه نحو شهرين، مقارنة بما شهده من تفاعلات حادة، وقام وزير خارجيتها بجولة في الدول الثلاث، فعادت ردود الأفعال إلى الظهور مؤكدة استمرار بعد المسافات بين القاهرة والخرطوم من ناحية، وأديس أبابا من ناحية أخرى.
إثيوبيا قد تلجأ إلى تهدئة إقليمية عبر سد النهضة بإبداء حرص شكلي على الحل بهدف تخفيف الضغوط عنها
وحمل بيان مجلس الأمن، الذي صدر بعد 69 يوما على عرض الأزمة عليه وفق مشروع قرار قدمته تونس، الكثير من الرسائل المتناقضة التي تريح مصر والسودان وإثيوبيا وتغضبها أيضا، فقد طالب بالتوصل إلى اتفاق مُلزم من دون تحديد سقف زمني مكتفيا بعبارة “خلال فترة زمنية معقولة”، وأعاد الكرة إلى ملعب الاتحاد الأفريقي بما يعني أن الأزمة بعيدة عن اختصاص المجلس وأن الباب الذي عولت عليه مصر والسودان بات مغلقا أمامهما الفترة المقبلة.
وأوضح المجلس موقفه عبر بيان رئاسي مرن وليس من خلال قرار يحمل صفة إلزامية في التعامل مع الأزمة ينطوي على مرجعية أكثر صرامة، وأوحى صدوره بالاجماع (15 دولة) بأن الصيغة التي خرج بها جاءت توافقية ومرضية لجميع القوى التي بدت مواقف بعضها (روسيا والصين) أقرب إلى إثيوبيا من مصر والسودان عند عرض الملف على المجلس، ما يفيد بالحرص على أن يجد كل طرف ما يريده سياسيا.
ولم تحمل الجولة التي قام بها نائب رئيس الوزراء ووزير خارجية الكونغو الديمقراطية كريستوف لوتوندولا لعواصم الدول الثلاث قبل أيام جديدا، وحاول حث المسؤولين على أهمية العودة إلى طاولة المفاوضات، مستفيدا من الزخم الذي وفره مجلس الأمن لبلاده التي ترأس الاتحاد الأفريقي قبل انتهاء ولايتها في فبراير المقبل لتحقيق اختراق في الأزمة، كي لا تعيد تكرار فشل دولة جنوب أفريقيا التي رعت مفاوضات على مدار عام من دون أن تحرز تقدما ملموسا.
وتريد الكونغو تسريع خطواتها للعودة إلى طاولة المفاوضات وقطع الطريق على الجزائر التي أعلنت عزمها على الوساطة في أزمة سد النهضة، وقام وزير خارجيتها رمطان لعمامرة في بداية أغسطس الماضي بجولة على الدول الثلاث لهذا السبب، ومضى أكثر من شهر ونصف الشهر ولم تظهر ملامح واضحة للمبادرة الجزائرية حتى الآن، ما يعني أن الإفادات التي وصلت إلى الجزائر غير مشجعة.
ويقول مراقبون إن الهدوء الذي حدث في ملف سد النهضة لم يكن وليد اقتناع بأن الحل أصبح قريبا أو أن الدول الثلاث وصلت إلى قناعة بجدوى تسوية الأزمة ومنع تفاقمها، بل جاء من رحم ظروف طبيعية وتحديات داخلية ومواقف إقليمية ودولية متقلبة.
ويضيف المراقبون أن فيضان النيل الأزرق جاء سخيا العام الجاري على الدول الثلاث، بما فوت الفرصة على حدوث أزمة في عجز المياه لدى كل من مصر والسودان، ناهيك عن أن إثيوبيا التي لم تتمكن من التوصل إلى تعلية الممر الأوسط وفقا للمستوى الفني المخطط له، وصلت إلى 573 مترا بدلا من 595 مترا.
وبالتالي لم تحقق الارتفاع المطلوب الذي يمكنها من حجز 13.5 مليار متر مكعب حسب خطة الملء الثاني، واحتجزت نحو 4 مليارات بالاضافة إلى الكمية نفسها العام الماضي، الأمر الذي أزال حدوث أضرار مباشرة من وراء سد النهضة، خاصة بالنسبة للسودان الذي عاني، على العكس، من تداعيات فيضان جارف هذا العام.
وأسهمت المكشلات الداخلية في كل من إثيوبيا والسودان في خفض حدة التصعيد الذي لاحت معالمه الأشهر الماضية، ولم يملك كلاهما رفاهية العودة إلى المناوشات على قاعدة أزمة سد النهضة أو الحدود المتنازع عليها، وراهنت مصر على أن تؤدي أزمات إثيوبيا المركبة إلى تعطيل عملية الشروع في استكمال سد النهضة، أو على الأقل ردع الحكومة الإثيوبية عن التمادي في خيار استفزازها لمصر.
أضف إلى ذلك أن المجتمع الدولي منح الأزمة اهتماما سياسيا ليمنع حدوث تدهور فاضح في المنطقة، ورفعت قوى عديدة “فيتو”عدم اللجوء إلى العمل العسكري، في إشارة فهمتها القاهرة مفادها أن الأجواء لن تسمح لها بممارسة أي نوع من الخشونة المباشرة.
وتحول الخطاب من السخونة إلى البرودة نسبيا وكاد ملف سد النهضة يختفي من وسائل الإعلام في مصر التي انشغلت به الفترة الماضية وكأن هناك تعليمات بتجاهله، ما يشير إلى اطمئنان بأن هناك تحركات تقوم بها القاهرة أو أن الصخب غير مجد والحكومة بحاجة إلى قدر من الهدوء يمكنها من إعادة ترتيب الأوراق وفقا للمستجدات.
وتعتقد دولة الوساطة الأفريقية، ممثلة في الكونغو الديمقراطية، بأن الهدوء الذي خيم على ملف سد النهضة يكفي لدفع عجلة المفاوضات إلى الأمام، لكن الكثير من المتابعين يرون صعوبة في ذلك، لأن التقديرات الرئيسية لدى الدول الثلاث لم تتغير، فلا مصر تنازلت عن ثوابتها، ولا إثيوبيا قبلت تخفيف حدة تمسكها بالحل المنفرد.
كما أن موقف السودان الرسمي لم يوقف تذمره من النهج المنفرد الذي تمضي فيه أديس أبابا، لأن مالك عقار عضو مجلس السيادة أشار أخيرا إلى مفاجأة من العيار الثقيل تتعلق بتباين التقديرات في بلاده، فلا يُوجد اتفاق على أن سد النهضة كله خير أو كله شر على السودان، حيث تتفاوت المواقف من إقليم إلى آخر.
وإذا كانت المواقف الدولية على حالها من النأي عن التدخل بحسم في الأزمة سوف تعود حبال الشد والجذب إلى سيرتها الأولى، وأي مفاوضات تُعقد في هذه الظروف ستعيد تكرار حوار الطرشان السابق ولن تحدث تطورات حقيقية تسهم في حلحلة الأزمة، فكل ما يمكن أن تصل إليه الوساطة لن يتعدى الارتياح لفكرة تحويل المفاوضات إلى عملية سياسية مستمرة كصيغة مرضية لعدد كبير من الأطراف، لأنها تكبح التفكير في اللجوء إلى الحل العسكري.
ويتعارض هذا الخيار مع التصريحات الرسمية الصادرة في كل من مصر والسودان بشأن وضع جدول زمني وتحديد مسبق للقضايا المختلف حولها، والبحث بجدية في إيجاد طريقة مناسبة لحلها، لكنه ينسجم مع التصريحات الإيجابية الصادرة في إثيوبيا التي شددت على عدم الإضرار بالمصلحة المائية للدولتين.
يبقى الرهان الأكثر واقعية منصبا على أن الحكومة المركزية في أديس أبابا لم تحقق الاستفادة المرجوة من وراء المتاجرة السياسية بملف سد النهضة، إذ أنه لم يحل دون اندلاع أزمات داخلية أو يؤدي إلى التفاف وطني كبير حولها.
ربما تلجأ أديس أبابا إلى تهدئة إقليمية عبر سد النهضة بالشروع في ابداء حرص شكلي على الحل قد يمكنها من تخفيف الضغوط الدولية الواقعة عليها بسبب أزمة تيغراي، فالتهدئة الظاهرة والعودة إلى التفاوض في ملف السد على قاعدة مرنة تتضمنان استعداد الحكومة للميل نحو التسوية في معالجة أزمات الداخل والخارج، ومحاولة تغيير الانطباعات التي رسخت لدى جهات عدة بأنها متشددة على المستويين، الأمر الذي يمكنها من التقاط أنفاسها بعض الشيء.
العرب