القاهرة – منحت الحرب في السودان فرصة مؤاتية لاستمرار إثيوبيا في خططها الساعية للبدء في الملء الرابع لسد النهضة الشهر المقبل دون مواجهة معارضة قوية شكلت ضغطا عليها في المرات الثلاث السابقة، ما أوجد مخاوف كبيرة لدى القاهرة بشأن التأثير السلبي لملء خزان السد هذه المرة على وصول المياه لمصر.
وأعلن وزير الخارجية الإثيوبي ديميكي ميكونين، الخميس، أن سد النهضة “يقترب حاليا من الملء الرابع.. عمليات الملء الثلاث السابقة لم تتسبب في ضرر لأحد”.
وقال خلال مؤتمر دولي حول النيل في أديس أبابا دون مشاركة مصر أو السودان فيه “إن مشروع السد أوشك على الانتهاء رغم تصريحات بعض الفاعلين الذين يسعون إلى احتكار استخدام النهر الأفريقي المشترك”.
واختفت الأصوات المصرية الداعية إلى استئناف المفاوضات حاليا وتحاشي التداعيات السلبية لبناء السد العملاق، على الرغم من مساعي القاهرة لتوظيف أعمال القمة العربية التي عقدت بجدة مايو الماضي لحشد دعم لدولتي المصب (مصر والسودان).
وألقت تطورات الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بظلالها على المشهد التفاوضي المجمد فزادته جمودا، بعد أن عمدت إثيوبيا إلى شن هجوم مضاد وصورت موقف الجامعة العربية على أنه يؤثر على العلاقات العربية – الأفريقية.
وتتعامل أديس أبابا وفق معادلة جديدة خرج فيها السودان من المعادلة بسبب الصراع العسكري وصعوبة الاتفاق على موقف من سد النهضة، وتدرك أنها قد تواجه معارضة مصرية فقط، ومنافذ جديدة للتهرب من الوصول إلى اتفاق مُلزم.
وباتت مصر أمام خيار التحرك بمفردها لفرملة التعنت الإثيوبي أو انتظار انفراج بعيد في السودان، وعليها نسج تفاهمات مع قوى إقليمية ودولية داعمة لموقفها.
وقد يكون اللقاء العابر الذي جمع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي برئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على هامش قمة ميثاق التمويل العالمي الجديد في باريس، الخميس، مؤشرا على إمكانية أن تتحرك القاهرة بشكل مباشر للتفاوض مع أديس أبابا.
وقال نائب المجلس المصري للشؤون الأفريقية السفير صلاح حليمة إن الأحاديث التي راجت حول هذا اللقاء تشير إلى رغبة مصرية في احتواء أي تصرفات أحادية من جانب أديس أبابا، وتقويض مساعي فرض الأمر الواقع مع غياب الطرف السوداني.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن القاهرة سوف تشرح تأثير الخطوات الإثيوبية على السودان، الذي يعاني حربا قد تؤدي إلى مجاعة تتضاعف حدتها مع استكمال بناء سد النهضة في غياب اتفاق ملزم.
وشهدت قمة باريس مصافحة وتبادلا للابتسامات بين السيسي وآبي أحمد، لكن وسائل الإعلام المحلية والدولية والمسؤولين في البلدين لم يقدموا تفاصيل حول ما دار بينهما.
وتتراوح نبرة القاهرة بين الحدة واستخدام عبارات الود في التعامل مع تعنت إثيوبيا، وتسعى الجهود لضمان استمرار المباحثات حول الأمور الفنية المتعلقة ببناء وتشغيل السد، بينما اعتادت أديس أبابا على تبني نهج المناورة واستهلاك الوقت والتعاطي مع المواقف المصرية بعدم اكتراث كبير، بعد أن تيقنت من عدم تدخل قوى إقليمية ودولية للضغط عليها بصورة حقيقية.
ولفت السفير المصري صلاح حليمة في تصريح لـ”العرب” إلى أن إثيوبيا بارعة في استغلال التطورات السياسية، فقد وظفت الأوضاع الرخوة في مصر عقب ثورة يناير عام 2011 لمضاعفة حجم السد والبدء في تشييده، وهو الأمر الذي يتكرر مع السودان الآن في عزمها الدخول في مرحلة الملء الرابع الخطيرة بلا اهتمام بما تعكسه من آثار سلبية على السودان الذي تنهمك قيادته في حرب داخلية طاحنة.
ويعد سد النهضة أكبر مشروع للطاقة الكهرومائية في أفريقيا، وتخشى مصر من تأثيره على حصتها البالغة 55.5 مليار متر مكعب من المياه، في حين تساور السودان مخاوف بشأن انتظام تدفُّق المياه إلى سدوده المحلية الصغيرة.
وفي ختام المرحلة الثالثة من تعبئة السد التي اكتملت في أغسطس الماضي، كان الخزان يحتوي على 22 مليار متر مكعب من المياه من أصل 74 مليارا من طاقته الكاملة، وتعمل اثنتان من التوربينات بقدرة إجمالية 750 ميغاواط من أصل الـ13 المخطط لها، والتي من المفترض أن تنتج في النهاية أكثر من 5 آلاف ميغاواط، ما يقود إلى مضاعفة إنتاج الكهرباء في إثيوبيا.
أديس أبابا تتعامل وفق معادلة جديدة خرج فيها السودان من المعادلة بسبب الصراع العسكري وصعوبة الاتفاق على موقف من سد النهضة
ويتوقع عدد من الجيولوجيين المصريين ملء نصف خزان السد مع نهاية الملء الرابع، غير أن ذلك سيكون خاضعًا لمدى قدرة أديس أبابا على استكمال الأعمال الإنشائية، وأظهرت أقمار اصطناعية أن عمليات البناء تسارعت منذ بدء الحرب في السودان منتصف أبريل الماضي، والآن دخلت الأسبوع الثاني من الشهر الثالث.
وأوضح أستاذ الموارد المائية بجامعة القاهرة نادر نورالدين أن اندلاع الصراع في السودان حال دون الحديث عن استئناف المفاوضات المتوقفة أصلا، وستجد أديس أبابا مبررات كافية تجعلها تمضي في خطتها دون تشاور مع دولتي المصب.
وأشار في تصريح لـ”العرب” إلى أن العقدة الكبيرة تتمثل في أن كلا من مصر والسودان ليست لديهما معلومات موثقة بشأن حجم المياه المتوقع تخزينها في الملء الرابع، كي تساعدهما على تبني خطط بديلة للمياه التي سوف يحجبها سد النهضة.
وكشف أن القاهرة ترتب أوراقها للتحرك بمفردها في هذا الملف وتدرك أن أديس أبابا مستفيدة من اشتعال الصراع في السودان وربما تعمل على تغذيته وإطالة أمده بطرق غير مباشرة، وهناك جملة مواقف عمدت فيها إثيوبيا على تحييد التحركات المصرية الساعية لوقف الحرب في السودان، ما يعني أن أديس أبابا تريد توظيف الصراع لإتمام الملء الرابع الذي يعد مرحلة فاصلة في البناء والتشغيل.
وكانت الدبلوماسية المصرية قد وضعت خطة تحرك لوقف الملء الرابع، بدأتها بطرح قضية السد أمام القمة العربية، ومن المفترض أن تتخذ خطوات أخرى بينها طرح الذهاب مجددا إلى مجلس الأمن بما يشكل ورقة ضغط على الاتحاد الأفريقي للتحرك، لكن عدم وضوح الرؤية بشأن الحرب في السودان جعلها تعيد صياغة أفكارها لإيجاد قنوات اتصال مباشرة مع إثيوبيا، وربما يكون لقاء السيسي وآبي أحمد نواتها.
العرب