يبدو أن عصر النظام التجاري العالمي القديم يتجه بسرعة مذهلة نحو نهايته، والنموذج المقترح الآن يبدو غريبا ومليئا بالمخاطر.
ويقول الكاتب إدوارد ألدون في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية، إن نمو التجارة العالمية على مدى ثلاثة أرباع القرن الماضي، كان مبنيا على مبدأ بسيط، وهو عدم التمييز في القوانين والتشريعات المنظمة للمبادلات بين الدول، وهذا سمح بنشر الثروة والازدهار في مختلف أنحاء العالم، وسمح لمئات الملايين من سكان الدول النامية بتحقيق الاستفادة.
وخلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، اتفقت أغلب البلدان لأول مرة في التاريخ على أنها سوف تتعامل مع البضائع المستوردة من الخارج على قدم المساواة، بقطع النظر عن بلد المنشأ.
هذا يعني أن الولايات المتحدة على سبيل المثال سوف تفرض نفس الضريبة على سترة مستوردة من إيطاليا أو من بنغلاديش، وفي البداية سمح هذا للعديد من الدول الفقيرة على غرار بنغلاديش بتحقيق النمو الاقتصادي من خلال التصدير، ولاحقا مع تطور الاتصالات واللوجستيك، سمحت العولمة للشركات بنقل مراكز الإنتاج إلى أي مكان في العالم، في ظل إمكانية إنتاج السلع وتصديرها تحت قوانين موحدة مهما كان بلد المنشأ.
قيود تجارية
ولكن مبدأ عدم التمييز يواجه الآن خطر الاندثار أكثر من أي وقت مضى، بسبب النقاش الدائر حول قضايا مهمة، مثل الأمن القومي، وحقوق العمال، وحماية المحيط، حيث إن أكبر اقتصاديات العالم يتجه نحو التخلي عن فكرة عدم التمييز، التي كانت حجر الأساس للتجارة الحرة والعولمة، وهو قرار يأتي بدافع وجود مشاغل أخرى أكثر أهمية.
جاءت أبرز خطوة في سياق التخلي عن هذا المبدأ، من الاتحاد الأوروبي الذي كشف في الفترة الماضية عن خطة لخفض الانبعاثات الكربونية بنسبة 55% مقارنة بعام 1990، وذلك بحلول نهاية العقد الجاري، إلى جانب بلوغ مرحلة الحياد الكربوني بحلول عام 2050.
هذا الهدف سوف يتطلب ثورة في التشريعات الاقتصادية، هي الأخطر منذ الثورة الصناعية، ويفكر الاتحاد الأوروبي في فرض ضريبة الحدود الكربونية، التي ستسمح بإقرار تعريفات جمركية أعلى بالنسبة للواردات التي تم إنتاجها بطرق تسبب زيادة الانبعاثات الكربونية، مقارنة بالمنتجين الأوروبيين الذين سيعملون وفقا لقيود بيئية صارمة.
ويوضح الكاتب أن هذا المخطط سوف يبدأ باستهداف القطاعات الأكثر تلويثا للبيئة، على غرار الإسمنت والفولاذ والأسمدة الزراعية والألمنيوم.
ويشير إلى أن الكونغرس يعمل أيضا على تطوير مخطط مماثل، لفرض ضريبة على واردات السلع الملوثة للبيئة، في إطار حزمة لإصلاح الموازنة، ما تزال تفاصيلها حتى الآن شحيحة.
وينبه الكاتب إلى وجود قيود تجارية أخرى في الأفق، يتم التخطيط لها أو التحضير لفرضها في جانبي المحيط الأطلسي، من أجل إجبار المنتجين والمصدرين على الالتزام باحترام حقوق العمال وحقوق الإنسان، وهذا يعني بالنسبة للعديد من القطاعات التجارية، أن مبدأ عدم التمييز أصبح شيئا من الماضي.
وأغلب هذه الإجراءات قد تبدو دفاعية أو ضرورية، ولكنها مجتمعة سوف تؤدي لتقسيم التجارة العالمية إلى تكتلات وأقاليم، وتجزئتها بحسب الأيديولوجيا والقيم الاجتماعية والالتزامات البيئية.
هذا سيجعل الشركات مضطرة لتصميم استثماراتها وطرق إنتاجها، لتتماشى مع قيم الدول التي تريد أن تبيع فيها سلعها، وهو ما سيفتح الباب أمام المزيد من الصراعات الاقتصادية.
ومع توجه العالم أكثر فأكثر نحو التجارة المدارة من طرف الحكومات، عوضا عن التجارة الحرة، سوف تكون هنالك حاجة ملحة للتصرف بحذر وعدم الذهاب بعيدا في هذه السياسات، لتجنب الانزلاق نحو السياسات الحمائية بين الدول.
والمعضلة الحقيقية في ظل هذا الوضع، هي أن الخط الفاصل بين الإجراءات الإنسانية والبيئية المشروعة، والسياسات الحمائية الأنانية، قد يكون رفيعا جدا، وخلال السنوات الأخيرة، شرعت بعض الدول في منح نفسها الحق في القيام باستثناءات تتناقض مع اتفاقيات التجارة الحرة في العالم.
حيث إن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تذرع بالأمن القومي، لرفع الضرائب المفروضة على واردات الصلب والألمنيوم من بعض الدول، وقدم الرئيس جو بايدن حججا مماثلة، في معرض تأكيده على أن منتجات مثل أشباه الموصلات، والبطاريات الكهربائية المتطورة، والصناعات الدوائية، والمعادن المهمة، يجب أن يتم إنتاجها محليا في الولايات المتحدة.
كذلك هددت واشنطن بحظر استيراد بضائع تعتبرها مدمرة للبيئة، وهي تنظر حاليا في قضية مثارة ضد فيتنام، بسبب تصدير أثاث ومنتجات خشبية مصنوعة من غابات تم قطع أشجارها بشكل غير قانوني.
إضافة إلى ذلك فإن الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة، كلها فرضت مؤخرا عقوبات موجهة، على الواردات من إقليم شينجيانغ الصيني، احتجاجا على معاملة الإيغور المسلمين.
ومع دخول العالم لعصر جديد من التجارة المدارة من طرف الحكومات، يحذر الكاتب من أن تصبح هذه الإجراءات الجديدة غطاء للسياسات الحمائية المقدمة للاقتصاد العالمي.
وهذه الدول في أثناء تخليها عن النظام التجاري السابق، في سبيل تحقيق أهدافها البيئية والإنسانية التي لا جدال في اعتبارها سامية، يجب أن تتذكر دائما مبدأ التقليل من القيود التجارية.
خاصة أن مفاوضي التجارة الدولية عملوا لعدة عقود على ترسيخ مبادئ وتشريعات مهمة، تتعلق بالسلامة وصحة البشر، على غرار معايير اختبار الصدمات للسيارات، وقوانين مراقبة جودة الغذاء والدواء.
وفي حال طرأت تغييرات على القوانين التجارية العالمية، يمكن التلاعب بهذه المكتسبات للتخلص من المنافسة الخارجية أو لأغراض سياسية.
المصدر : فورين بوليسي