قانون حماية الرموز في موريتانيا: المقدسات تقيد الحريات

قانون حماية الرموز في موريتانيا: المقدسات تقيد الحريات

أثار قانون حماية الرموز في موريتانيا الذي عرضته الحكومة على البرلمان من دون استشارة مع الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة، موجة جدل واسعة النطاق خاصة في ظل تكريسه للدكتاتورية وجعل شروط حماية المقدسات حبالا لخنق الحريات.

تستعرض الجمعية الوطنية الموريتانية الثلاثاء المقبل مشروع قانون يتعلق بحماية الرموز الوطنية وتجريم المساس بهيبة الدولة وبشرف المواطن، وذلك في الوقت الذي أثار فيه موجة من الانتقادات على خلفية أنه يمثل تراجعا عن مكاسب حرية التعبير والديمقراطية في البلاد.

وكان مجلس الوزراء الموريتاني قد صادق على مشروع القانون في الرابع عشر من يوليو الجاري وعرضه على لجنة العدل البرلمانية التي بدأت النظر فيه يوم الخميس الماضي.

ووفقا للمادة الثانية من مسودة القانون فإنه “يعد مساسا بهيبة الدولة ورموزها كل من يقوم عن قصد عبر استخدام تقنيات الإعلام والاتصال الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي بالمساس بثوابت ومقدسات الدين الإسلامي أو بالوحدة الوطنية والحوزة الترابية أو بسب أو إهانة شخص رئيس الجمهورية أو العلم أو النشيد الوطنيين”.

محمد محمود ولد الشيخ: مشروع القانون يستهدف سد الفراغ التشريعي في النظام الجنائي

وتوضح المادة أن “مرتكب هذه الأفعال دون المساس بالعقوبات الأشد المقررة في قوانين أخرى يعاقب بالحبس من سنتين إلى أربع سنوات وبغرامة مالية من 200 ألف أوقية (5.5 آلاف دولار أميركي) إلى 500 ألف أوقية (16.5 ألف دولار)”.

ويرى منتقدو مشروع القانون أنه يمثل تراجعا عن مكاسب الديمقراطية وحرية التعبير ويجعل من شروط حماية المقدسات حبالا لخنق الحريات، وذلك من خلال نص قانوني فضفاض وحمّال أوجه.

كما يمكن استعمال القانون في كل الاتجاهات ومن مختلف الأطراف سواء لتصفية الحسابات السياسية أو قمع المعارضة وملاحقة الإعلاميين والناشطين، بالإضافة إلى القراءات النقدية سواء للنص الديني أو لأداء المؤسسات السيادية للدولة ووضع كل ذلك تحت خانة حماية الرموز الوطنية.

وتسعى الحكومة لتمرير القانون دون فسح المجال الكافي لمناقشته من قبل الفعاليات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، لاسيما ذات المنحى الحقوقي. كما لم تترك فرصة لانتقاده من قبل المنظمات الدولية وهو ما أثار استغراب المراقبين، خاصة بعد أن سارعت إلى التصديق عليه وعرضه على البرلمان قبل أيام قليلة من انتهاء دورته الحالية.

واعتبر وزير العدل الموريتاني محمد محمود بن الشيخ عبدالله بن بيه أن هذا المشروع يهدف إلى سد الفراغ التشريعي الملاحظ حاليا في المنظومة الجنائية الوطنية، وفي حالات الاعتداء على الرموز الوطنية والمساس بهيبة الدولة.

ويؤكد الوزير الموريتاني أن بلاده تتمسك بالثوابت الحقوقية المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وكافة المواثيق التي تكرس المبدأ الإنساني لحرية التعبير.

ويوضح أنه أصبح من الضروري اليوم مكافحة كل ما من شأنه التأثير على وحدة الشعب وهيبته وسيادة الدولة التي تعكسها رموزها المرجعية ووضع حد للاستخدام السيء لمنصات التواصل الاجتماعي دون المساس بالحريات التي يكفلها الدستور والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها موريتانيا.

ويقول وزير العدل إن هذا المشروع يأتي في وقت مناسب لسد الثغرات التي تم رصدها في النظام الجنائي لتمكين الممارسين من قضاة ومحققين من آليات قانونية واضحة لفرض سيادة القانون واحترام قيم الجمهورية.

وحسب ما جاء في المادة الثالثة من مشروع القانون فإنه “يعتبر مساسا بالأمن الوطني كل نشر أو توزيع لمواد نصية أو صوتية أو مصورة عبر استخدام تقنيات ووسائل الإعلام والاتصال الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي تستهدف النيل من الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة وقوات الأمن أو زعزعة ولائهم للجمهورية ويعاقب على ارتكاب هذه الوقائع بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وبغرامة من مئتي ألف إلى أربعمئة ألف أوقية”.

ويعتبر كذلك مساسا بالأمن الوطني تصوير ونشر وتوزيع صور أفراد أو تشكيلات القوات المسلحة وقوات الأمن أثناء أداء مهامها دون إذن صريح من القيادة المسؤولة، ويعاقب ارتكاب ذلك بالحبس من سنة إلى سنتين وبغرامة مالية من مئة ألف إلى مئة وخمسين ألف أوقية.

واعتبر المحامي والخبير القانوني محمد المامي مولاي أعلي أن مشروع قانون “حماية الرموز” يمثل تراجعا كبيرا بمضامينه والعقوبات التي ينص عليها كتجريمه لإهانة الرئيس ومعاقبته عليها بالحبس من سنتين إلى أربع سنوات، لافتا إلى أن بعض مواده جاءت تكرارا لقوانين أخرى.

محمد ولد سيدي مولود: على النظام زيادة سعة سجونه فالشعب لن يفرط في حريته

وأشار ولد مولاي أعلي إلى الأمر القانوني رقم 23/91 بتاريخ 25 يوليو 1991 المتعلق بحرية الصحافة، وكانت مادته 22 تعاقب إهانة رئيس الجمهورية بالحبس من 3 أشهر إلى سنة، وفي سنة 2006 جاءت المادة 35 من الأمر القانوني رقم 017/2006 المتعلق بحرية الصحافة الصادر 12 يوليو 2006، وعاقبت إهانة الرئيس بغرامة من 200 ألف إلى مليوني أوقية فقط دون عقوبة الحبس، وأخيرا ألغي ذلك المقتضى بالقانون رقم 054/2011 بتاريخ 24 نوفمبر 2011، وبموجبه أصبح تجريح رئيس الجمهورية كتجريح الخواص.

وأكد ولد مولاي أعلي “الحاجة إلى تجريم تدنيس العلم والمساس بالوحدة الوطنية وحماية الأعراض وتجريم القدح والإهانة الشخصية”، مشيرا إلى أن القانون المقدم إلى البرلمان “لا يستجيب لهذه المتطلبات التشريعية”.

ويقول الخبير القانوني الموريتاني إن مشروع القانون يشمل مجال الإعلام إضافة إلى مجالات الاتصال الرقمي الأخرى “فمجال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والأشخاص المستهدفون به أساسا هم الإعلاميون والمدونون”، كما أن المادة الثالثة تضمنت “من بين أشياء أخرى تجريم تصوير أو نشر صور أفراد قوات الأمن أثناء عملهم دون إذن من القيادة، أو النيل من روحهم المعنوية بالصور أو بالكتابة”، معتبرا أن هذا الأمر “يجعل توثيق جرائم التعذيب أو توثيق استخدام الأمن للقوة الزائدة أثناء فض المظاهرات والتجمعات يتطلب الحصول على إذن من قيادتهم تحت طائلة الحبس من سنة إلى سنتين”.

ورأى ولد مولاي أعلي أن مشروع القانون يوحي بوجود ثلاثة مستويات من حماية الأعراض، ففي الدرجة الأولى رئيس الجمهورية، وفي الدرجة الثانية المسؤولون العموميون، وفي الدرجة الثالثة المواطنون العاديون حيث تركت حماية أعراضهم للقواعد العامة ولم يتحدث عنهم هذا النص، باستثناء نقل شبه حرفي للمادة 24 من قانون الجريمة السيبرانية في ما يتعلق بالمساس بالحياة الشخصية، أو ما ورد في العنوان (شرف المواطن)، مردفا أن مشروع القانون يسد “فراغا تشريعيا مهما يتعلق بإهانة العلم الوطني، لكنه أضاف إليه جريمة إهانة النشيد، ولا نعرف لذلك معنى إلا إذا كان تجريم نقد كلماته أو نقد تلحينه، كما لا نعرف له مثالا شهيرا إلا قانون 2020 في جمهورية الصين الذي أثار جدلا كبيرا”.

واعتبر برلمانيون موريتانيون أن مشروع القانون خطير ويكرس الدكتاتورية وينتهك حرمة المواطن، حيث قال النائب عن حزب تكتل القوى الديمقراطية العيد ولد محمد إن هذا القانون “يتضمن مقتضيات خطيرة على الحريات، ويحمي مرتكبي جرائم التعذيب ويميِّز بين المواطنين”، مضيفا “ربما يكون القانون الأسوأ خلال السنوات العشرين الأخيرة”.

ومن جانبه أوضح النائب عن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الإخواني الشيخاني ولد بيب أن مشروع القانون “من أوغل القوانين في تكريس الدكتاتورية وانتهاك حرية المواطن وتعميق تسلط وبطش أجهزة الأمن به”، إذ أنه “يعمق الاستبداد ويحمي الموظفين من مراقبة المواطن بعد أن أتاحت له التقنيات الحديثة ووسائل التواصل دورا في رقابة أدائهم وفضح فسادهم وإفراط بعضهم في استخدام السلطة في ما يريد”.

واعتبر ولد بيب أن مشروع القانون جاء “في الوقت الضائع مع نهاية الدورة البرلمانية وبطريقة الاستعجال تمت في توقيتاته المخالفة للنظام الداخلي وفي موضوع غاية في الغرابة”.

وأبرز أن “رئيس الدولة منتخب من المواطنين، وهو شخصية اعتبارية، ولديه صلاحيات واسعة يكرسها الدستور والقوانين وتحميه العديد من قوانين بصفته الاعتبارية ومن باب أولى بصفته الشخصية ولن يضيف له هذا النظام شيئا جديدا”، مرجحا أن مشروع القانون سيحدث ضجة كبيرة “المتضرر منها أولا وأخيرا هي صورة الرئيس الذي يسعى لحماية نفسه بالقوانين والسجون والغرامات بدل العدل والحرية وحماية المواطن وكرامته وعيشه الكريم”، مردفا أن “الذين صوروا له (الرئيس) الحاجة لهذا القانون قد خانوه أكثر مما نصحوه”، مشددا على أن “خطورة مثل هذا القانون تتطلب تأجيله إلى الدورة القادمة حتى يأخذ ما يحتاج من فحص وتنقية وتمحيص وتعميق ونقاش”.

وبين النائب البرلماني محمد الأمين ولد سيدي مولود أنه على النظام في حال مُرّر مشروع القانون “أن يزيد سعة سجونه، فالشعب الموريتاني لن يفرط في حريته ولا في حقوقه بسبب نصوص صيغت برؤية قاصرة في ظرف استثنائي”، معتبرا أن الشعب “مر بظروف أصعب من هذه، وقدم في كل مرحلة من التضحيات ما يناسب أهمية الوطن ومقتضيات الحرية”.

منتقدو مشروع القانون يرون أنه يمثل تراجعا عن مكاسب الديمقراطية وحرية التعبير ويجعل من شروط حماية المقدسات حبالا لخنق الحريات

وقال ولد سيدي مولود إن مشروع القانون “مجرد حلقة جديدة ضمن حلقات سبقته في قوانين ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها العذاب، مثل قانون المعلومات الذي يهمل مغالطات المسؤولين وتزوير الواقع، ويسجن المدونين حين نشر معلومات غير دقيقة”.

وأضاف أن “90 في المئة من مضمون القانون منصوص في قوانين أخرى”، لافتا إلى أن مشروع القانون الجديد جمع بين “المقدسات الدينية والحوزة الترابية وشخص الرئيس والعلم والنشيد الوطني إلخ، وهذا أمر غريب، حيث يتم الجمع بين مسؤول ذي مأمورية محددة يخطئ ويصيب، ويمارس السياسة ويعبر عن مواقفه وآرائه بحرية مطلقة ويتمتع بحصانة أثناء مهامه، وبين رموز وطنية ثابتة ومستمرة وترمز للوطن كله ولا تمارس مواقف ولا تظلم أحدا ولا تخطئ في حقه، وهذا عبث حقيقي”، وفق تقديره، إذ أن “رفع النشيد إلى مرتبة العلم المنصوص دستوريا غير منهجي هو الآخر”، متسائلا “ما هي إهانة النشيد تحديدا؟ هل هي نقد كلماته أو لحنه؟”، مشددا على أنه “يجب أن نتذكر أن العلم بلونه الجديد والنشيد الحالي قد جاءا في ظروف استثنائية طبعها الكثير من القمع والانقلاب على مجلس الشيوخ، وجاءا إثر استفتاء دستوري مزوّر صوّتَ فيه بعض الموتى!”.

ولاحظ ولد سيدي مولود أن تجريم مشروع القانون الجديد لما يسميه (النيل من الروح المعنوية لأفراد القوات المسلحة وقوات الأمن أو زعزعة ولائهم للجمهورية) “ميوعة واضحة، فمثلا يمكن أن يقال إن الكلام عن ضعف رواتب عناصر الأمن والجيش يضعف ولاءهم أو يمس معنوياتهم. كما أن تجريم المشروع لتصوير ونشر وتوزيع أفراد القوات المسلحة وقوات الأمن أثناء أداء مهامها فيه لغم آخر، لأنه لم يفرق بين تحرك الجيش وقوات الأمن توفيرا للأمن، وبين ممارسة أعمال مخالفة للقانون مثل القمع وضرب المواطنين”.

وبالمقابل ارتفعت أصوات أخرى لتدافع عن مشروع القانون باعتباره “سيضع حدا للفوضى التي كانت تعيشها مواقع التواصل الاجتماعي في ظل سيادة الغوغاء، والتحريض على الرموز الوطنية وبث الفرقة وسب الأشخاص وهي أمور تتنافى مع الشريعة الإسلامية والقانون وتعارض مبادئ الإنسانية”، حسب تعبير النائب الداه صهيب من حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم.

وينظر أغلب المتابعين للشأن الموريتاني إلى مشروع القانون على أنه يستهدف تكميم الأفواه، لاسيما أن أغلب المواد التي يتضمنها منصوص عليها في الدستور وفي قوانين أخرى، مثل تجريم المساس بالمقدسات الدينية والوحدة الوطنية والحوزة الترابية، لكن الجديد هو الزج بمقام رئيس البلاد في صراع قد يكون في غنى عنه، وتفصيل المواد بشكل لا يعطي مجالا للتأويل من قبل فقهاء القانون، بما سيفتح أبواب السجون على مصراعيها لكل رأي مختلف في ظل المساواة أمام القانون بين المساس بمقدسات السماء وما يرجى تقديسه على الأرض.

العرب