اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيّد سلسلة من الإجراءات الاستثنائية الخطيرة، فأعلن إقالة رئيس الحكومة، وتجميد اختصاصات مجلس النواب وإغلاقه، ورفع الحصانة عن أعضائه، كما منح رئاسة الجمهورية سلطات تنفيذية غير محدودة. وقال سعيد إنه يستند إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، ملمحاً إلى أنه سوف يصدر قرارات أخرى لاحقة بينها تعيين رئيس حكومة.
ولا حاجة لأن يكون المرء ضليعاً في تفسير الدساتير كي يدرك أن المادة المشار إليها لا تخول الرئيس التونسي اتخاذ كل تلك الإجراءات الاستثنائية، لأنها تشترط اللجوء إلى «التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية» في حالة واحدة محددة هي وقوع «خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها» وتُلزم الرئيس بالتشاور في هذه الإجراءات مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية.
ولم يتجاوز سعيّد هذه الحيثيات لجهة عدم التشاور مع رئيس الحكومة ورئيس البرلمان فقط، بل عمد إلى إقالة الأول ومنع الثاني من دخول مقر البرلمان، هذا عدا عن المفارقة الكبرى المتمثلة في أن الرئيس كان ويظل هو نفسه الذي عطّل إنشاء المحكمة الدستورية وبالتالي فليس ثمة تلك الجهة القضائية العليا التي تشترطها المادة 80. مفارقات أخرى يمكن أن تُستعاد هنا، لجهة أن حركة «النهضة» التي يناهضها سعيّد اليوم كانت هي ذاتها التي ساندته خلال الانتخابات الرئاسية، ثم لجهة أنه هو الذي اختار رئيس الحكومة الحالي ولكنه انقلب عليه لاحقاً وسعى إلى عرقلة عمله.
قرارات الرئيس التونسي تنطوي على مخاطر كثيرة تهدد استقرار البلد في ظرف بالغ الحساسية وتتفاقم صعوباته بسبب التفشي غير المسبوق لجائحة كورونا واقتراب المنظومة الصحية من الانهيار التام. كذلك فإن الإجراءات الاستثنائية تقسم الشارع الشعبي التونسي بين مؤيد ومعارض، على خلفية تأزم سياسي وحكومي وصراع بين الرئاسات الثلاث يحتدم منذ أشهر ولا تكف الرئاسة التونسية عن صبّ الزيت على لهيبه. وأما الأخطر في الأمر فإنه لجوء سعيّد إلى نشر الجيش والمدرعات في الشوارع، وزجّ أفراد الأمن الوطني في الخلاف أو الاتفاق مع اجتهاداته الدستورية، وهذه قفزة كبرى نحو مجهول محفوف بالمخاطر لأن الجيش الذي عجز زين العابدين بن علي عن حشده في وجه الانتفاضة الشعبية يمكن أن يوضع اليوم في قلب تقاطع النيران وفي وجه أبناء الوطن الواحد.
ومن جانب آخر، لم يكن مآلاً غير متوقع أن تسفر أولى نتائج الإجراءات الاستثنائية عن ميول فاشية لكمّ الأفواه ومصادرة الحريات، فسارعت قوى أمنية لا ترتدي الزي الرسمي إلى اقتحام مقر قناة «الجزيرة» وإغلاقه وطرد العاملين فيه، من دون أي سند قضائي أو قانوني. وبالتالي فإن ما يعتبره الكثيرون انقلاباً على الدستور والمؤسسات الشرعية، قد ينزلق سريعاً إلى صيغة صريحة من الاستبداد والتفرد بالسلطة والحكم الفردي.
ذلك كله يلقي على عاتق القوى الحية في المجتمع التونسي واجب اليقظة التامة والتنبه جيداً إلى الفارق بين تصحيح مسارات الحاضر المليئة بالأخطاء والعثرات، وبين شرعنة أو حتى تجميل إجراءات استثنائية لا يصحّ سياسياً وأخلاقياَ تجريدها من صفاتها الانقلابية.