ما فعله المرشد الأعلى الإيراني وميليشياته بالمنتفضين العراقيين، أمس، وهم شيعة، وما يفعله، اليوم، بالمنتفضين الأحوازيين، وهم شيعة أيضا، ليس له سوى معنى واحد، هو أن أمنه أولا، وأن المواطن الشيعي عنده معزز ومكرم ما دام في طوعه، ومخلصا متفانيا في خدمته، وجاهزا ليموت من أجله، دون جدال ولا نقاش. ولكن هذا المواطن الشيعي، نفسه، لا يختلف عنده عن الوهابيّ والبعثي والصهيوني والأميركي والعلماني إذا ما حدثته نفسه بأن يهتف بسقوطه، أو يتظاهر ضده، حتى لو كان حفيد الإمام الخميني نفسه، أو أحد أبناء معاونيه المعممين الكبار.
والذي أثبتته محرقة الأحواز الأخيرة هو نفاقُ هذا الولي الفقيه وانتهازيتُه دون الحاجة إلى دليل. فهو يبكي على الطائفة هنا، ويذبح أبناءها هناك، فقط عندما تحكم المصلحة، أو عندما يطالبونه بالكرامة ولقمة العيش.
وبتقليب تأريخ النظام الطويل، منذ قيامه في 1979 وإلى هذه الأيام الدامية في الأحواز وطهران وبهبهان وأصفهان، وربما في مدن ومقاطعات إيرانية أخرى، يتبيّن أنه (قد) يتساهل مع تظاهرة غاضبة يقوم بها إيرانيون عرب سنة، أو كورد، أو بلوش، أو أذريون، ويأمر أجهزته الأمنية بأن تحاول ترضية ناشطيها باللين والمغازلة، أولا وثانيا وثالثا، ولا يسمح برفع العصا عليهم إلا بعد طول بال، وبعد أن تفشل جميع الحيل الممكنة.
ولكنه حين يفاجأ بتظاهرة يقوم بها مواطنون شيعة، سواء كانوا من الفرس أو من أي جنس آخر من أجناس الإيرانيين، فعلى الفور، ودون انتظار ولا مهادنة، يسارع إلى قمعها، بكل الأسلحة، حلالها وحرامها، وبالرصاص الحي إذا لزم الأمر، إذا لم تنفع العصيّ والهراوات وقنابل الغاز والاعتقالات والاختطافات والتهديدات، حتى لو غضب عليه العالم كله، وأدان همجيته ودمويته في قمع المتظاهرين المسالمين.
جريمة هذا المعمم الذي تنتظر أمته وطائفته منه الرحمة والأمانة والدعوة إلى الأخوة والسلام كبيرة، فقد جعل الدين (التشيع) بنادق وخنادق ومشانق وحرائق وألحق بالذات المسلمة حروقا وعاهات مستديمة يصعب شفاؤها
وأغلب الظن أنه سوف يتمكن، أخيرا، من إطفاء وهج انتفاضة الأحواز ومناصريها في المدن الأخرى الذين خاطبوا أشقاءَهم الأحوازيين، (لا تخافوا، لا تخافوا نحن معا) مثلما أطفأ جذوة انتفاضة بغداد والناصرية والنجف وكربلاء، وسيواصل ملاحقة ناشطيها بالدراجات النارية والكواتم والخناجر والسكاكين، كما فعل مع شباب العراق التشرينيين الشهداء. وهنا نتساءل، إذا كان الثمن الذي يدفعه المواطن الشيعي اليوم لدولة المرشد الأعلى، وهو المحتاج لدمائهم وهو يقاتل من أجل إقامة دولة الإمام المنتظر هو الجوع والعطش والخوف الدائم ومصادرة حرية الإنسان وكرامته وحقه في الماء والدواء والغذاء، فهل سيكون عندما يُكمل جهاده ويستقر ويستقل، أقل ظلما وقهرا وفسادا غدا أو بعد عمر طويل؟
إن جريمة هذا المعمم الذي تنتظر أمته وطائفته منه الرحمة والأمانة والدعوة إلى الأخوة والسلام، كبيرة. فقد جعل الدين، التشيع، بنادق وخنادق ومشانق وحرائق وألحق، نتيجة ذلك، بالذات المسلمة حروقا عميقة وتشوّهات خِلقية وخُلقية وعاهات مستديمة يصعب شفاؤها بغير المزيد من الدماء والدموع.
هل رأيتم كيف جعل طوابير (المجاهدين) تتقاطر، زرافاتٍ ووحداناً، خفافاً وثقالاً، من العراق ولبنان وأفغانستان لتحرير مدن الأحواز من (غاصبيها) (المشركين) الأحوازيين؟
إنه يعتقد، وبقوة، بأن الدعوة إلى إقامة دولة العدل الإلهي الموعودة تبرر أن تكون حياةُ الأمة كلها، والطائفة الشيعية منها وقبل غيرها، مجزرة دائمة لا بقاء فيها لمعارض، حتى لو كان سيداً وجدُّه رسول الله.
إن بقاءه في السلطة، بفشله وظلمه وعدوانه وفساده وإرهابه، مقدس، وفوق كل دين وطائفة، وفوق أهله أجمعين.
والشيء بالشيء يُذكر. لم ينسَ أحدُنا كيف هبّت أحزاب السلطة العراقية، كلُها، بكلَّ ما لديها من صحف وإذاعات وفضائيات وحسينيات، لتندّد بمحاكمة المواطن السعودي نمر النمر، وراحت تطالب الحكومة والشعب العراقي والمسلمين في العالم كافة بإدانة إعدامه، رغم أنها تعرف وتحرف أنه لم يتظاهر كما يتظاهر الأحوازيون اليوم مطالبين بكهرباء وماء وإنترنت، بل خرج، علنا، وعلى شاشات التلفزيونات العربية والعالمية، مبارزا ومبشرا ونذيرا وداعيا شيعةَ السعودية إلى الثورة المسلحة على الحكم وإقامة نظام جديد يوالي إمامة الولي الفقيه.
كما لم ينسَ أحدٌ منا أيضا كيف اشتعلوا غضبا على حكومة البحرين حين واجهت متظاهرين يرمون على جنودها وشرطتها ومؤسساتها قنابل المولوتوف، وطالبوا الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية بالتحرك لحقن دماء أشقائهم المجاهدين البحرينيين.
ثم جاء هذا الزمن الرديء ليكشف لنا كيف سارع أصحاب تلك الأحزاب المتدينة العراقية إلى إرسال المئات من مسلحيهم إلى الأحواز لإعانة القاتل على المقتول والسارق على المسروق.
لكن، وبيقين اليقين، سيواصل الإيرانيون انتفاضاتهم، وسيفعلون، غدا أو بعد غد، ما فعله المصريون والتونسيون الذين كانت أحوالُهم أقلّ سوءاً من أحوالهم بمئات المرات ولكنهم لم يصبروا طويلا على الظلم والظالمين، فتظاهروا، سلما، في البداية، وحين لم يُنصَفوا، ولم تُحترم مطالبهم أطلقوا ثورتَهم عاصفة شاملة لم تهدأ حتى اقتلعت الفساد من جذوره، ورمت بالفاسدين في صناديق القمامة، رغم كل ما كان لديهم من عساكر ومدافع وقلاع.
العرب