دفع اليأس وفقدان الأمل من خروج البلاد قريباً من الدمار في العمران وفي النفوس أعداداً كبيرة من السوريين للهجرة صوب أوروبا. هؤلاء السوريّون الذين يهيمون سيراً على الأقدام بعشرات الآلاف مع عائلاتهم، باتوا يبحثون عن ملجأ نهائيّ و «وطن» يؤمّن بقاءهم وأطفالهم. إنّهم يأتون من مناطق سيطرة السلطة كما تلك التي تحت سيطرة المعارضة، وكذلك من دول الجوار التي عاشوا فيها لجوءاً مؤقتاً على أمل العودة القريبة إلى ديارهم.
إنّ انسداد الأفق وتداعياته حرّك الكثير من الأمور. وأعاد التعاطف الشعبيّ مع السوريين، حتّى في أوروبا والولايات المتحدة. كان إرهاب «داعش» قد جعل الأوروبيّين والأميركيين وغيرهم، التي تساند حكوماتهم المعارضة المتحالفة مع «جبهة النصرة» المرتبطة بـ «القاعدة»، ينفرون من قضيّة الشعب السوريّ ويشكّكون في أنّ طموحه هو حقّاً… الحريّة والكرامة. لكنّ هذه الموجة من البشر العاديّين الباحثين عن البقاء والأمل لهم ولأطفالهم تُثبت أنّهم يطلبون الحريّة والكرامة ولو في أقاصي الدنيا.
إنّ اندفاعهم اليائس نحو دولتين أوروبيّتين، ألمانيا والسويد دون غيرهما، على خلفيّة وعدهما لهم بتلبية مطلبهما، قلب المعادلات والسياسات في أوروبا نفسها. ففرنسا مثلاً باتت تجهد كي تحاول أن تثبت أنّها ما زالت أرضاً لحقوق الإنسان واللجوء، وخلال أسبوع غيّرت سياساتها. وهـــي تحضّر لاستــــقبال 31 ألفاً من السوريين، علماً أنّ 2000 فقط طلبوا اللجـــوء إليها هذه السنة، وأنّ رئيسها كان قد وعد باستقبال 24 ألفاً خلال سنتين. وها هي تغيّر مجمل إجراءات اللجوء واستقبال اللاجئين وتسهّلها بشكلٍ نوعيّ.
قلب المعادلات لم يكن فقط على مستوى استقبال الهجرة، بل أيضاً في السياسات تجاه سوريا والمنطقة برمّتها. فقد خلق نسيج موجة اللاجئين القادمة من تركيا، والذي ضمّ سوريّين من جميع الطوائف، عرباً وكرداً، وعراقيين متنوّعي الانتماءات، وأفغاناً، القناعة أخيراً أنّه إذا لم يعُد الاستقرار بشكلٍ ما إلى الشرق الأوسط وإلى سوريا بشكلٍ خاصّ، وإن لم يتمّ إيقاف توالي «فشل» الدول، فإنّ أوروبا ذاتها، وقبلها تركيا، مقبلة جميعها على صدمات إنسانيّة وسياسيّة ستزعزع استقرارها وديموقراطيّاتها.
بالتالي، ها هي العمليّة السياسيّة في سوريا تجد زخماً جديداً. وتتخلّى فرنسا، وتركيا بعدها، عن الموقف الأكثر تشدّداً الذي كان قد ضلّل بعض أطياف المعارضة: أنّ الحلّ السياسيّ يرتبط برحيل رأس السلطة كشرطٍ وليس كنتيجة، وأنّ مكافحة «داعش» والتنظيمات الإرهابيّة الأخرى لا يمكن أن يأتي إلاّ بعد تحقيق هذا الشرط. وتأخذ ألمانيا عبر موقفها من اللاجئين وانخراطها الهادئ في الحلّ دوراً رئيساً في المرحلة المقبلة. أمّا روسيا، فقد أتت بقوّاتها العسكريّة على الأرض، ووضعت ثقلها لتقلب المعادلة، بانتظار ما سيعلنه رئيسها في الجمعيّة العامّة المقبلة للأمم المتحدة. وربّما سيأتي هذا اللقاء الأمميّ بأسس ما سمّاه المبعوث ستيفان دي ميستورا «مجموعة الاتصال» الدوليّة الإقليميّة التي لا يُمكن حلّ الصراع في سوريا من دون توافقها.
لكنّ هذا الزخم الإقليميّ ـ الدوليّ الواضح يقابله تلكؤ وغموض من قبل السلطة السوريّة في الانخراط في الشقّ السوريّ ـ السوريّ من العمليّة السياسيّة، ظنّاً منها أنّ روسيا ستساعد الجيش السوريّ ليس فقط في مكافحة «داعش» ومثيلاتها، بل للاستقواء على المعارضة المسلّحة. هذا ما نفاه المسؤولون الروس تكراراً، لأنّ ذلك قد يأخذ روسيا التي لا تقدر على حشد أعداد كبيرة من القوّات المسلّحة في سوريا إلى الغرق في مستنقع الحروب الداخليّة ـ الإقليميّة. لكن يبقى على الجميع، الروس والدول الأخرى، الفرز الجدّي والفاعل بين المعارضة التي تؤمن بوطن المساواة وتلك المرتبطة بـ «القاعدة».
هكذا وضع اللاجئون ويأسهم ومعاناتهم من أجل الحريّة والكرامة الجميع أمام مسؤولياتهم.
سميح المعايطة
نقلا عن السفير