بشير واحد لا يكفي

بشير واحد لا يكفي

في العام 2003 تمرد مسلحون من أهالي دارفور جنوب الصحراء ضد نظام الرئيس السوداني المعتقل حاليا عمر البشير، فردَّ يومها بحملة قصف جوي ضد تجمعات المسلحين والمدنيين، مع مداهمات رافقتها جرائم قتل واغتصاب جماعي. وتقول المحكمة الجنائية الدولية إن عدد القتلى والمشردين وصل إلى 300 ألفا.

وبعد ست سنوات من التحقيقات المعقدة المطولة أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في العام 2009 مذكرة توقيف بحق عمر البشير.

ونكاية بالعدالة الدولية أعيد انتخابه في 2010 لفترة رئاسية ثانية. وفي انتخابات عام 2015 حصل على 5 ملايين و252 ألفا و478 صوتًا من مجموع المصوتين البالغ 5 ملايين و584 ألفا و863 صوتًا. أي أن 279 فقط من الناخبين لم يصوتوا للرئيس، ربما بسبب ظروف طارئة منعتهم من التصويت!

وحين تقرر إنهاء حكم البشير خرجت الجماهير السودانية لا للهتاف بحياة المجاهد عمر البشير هذه المرة، بل بسقوطه وبطانته، فأجبرته في أبريل 2019 على التنحي ليتسلم المسؤولية مجلسٌ عسكري انتقالي بقيادة النائب الأول للرئيس وزير الدفاع الفريق أحمد عوض بن عوف.

ولكن الجماهير الغاضبة أصرت على طرده، باعتباره من بقايا النظام السابق، فتقدم باستقالته، وحل محله الفريق أول عبدالفتاح البرهان الذي قاد حركة التطبيع مع إسرائيل، وتصالح مع أميركا، ورفع السودان من قائمة الدول راعية الإرهاب.

وفي السابع عشر من أبريل 2019 نُقل البشير من الإقامة الجبرية إلى سجن الخرطوم، وحوكم بتهمة “التحريض والمشاركة” في قتل المُتظاهرين، وبالفساد بعد العثور على 130 مليون دولار في منزله.

الحكومة السودانية أعلنت عن تسليم المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، إلى هنا والحكاية تبدو وكأنها عدالة دولية حقيقية، لكن المسألة التي ينبغي أن تناقش هي أن هذه العدالة الانتقائية تمسك بناس وتعمى عن ناس

وقبل أيام وبعد اثنتي عشرة سنة، أعلنت الحكومة السودانية عن تسليم المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهم الرئيس ووزير دفاعه ووالي شمال كردفان السابق.

إلى هنا والحكاية تبدو وكأنها عدالة دولية حقيقية لا تسكت ولا تتسامح مع الحكام الذين ينتهكون حقوق الإنسان، ويهددون السلم والأمن الدوليين.

ولكن المسألة التي ينبغي أن تناقش هي أن هذه العدالة الانتقائية تمسك بناس وتعمى عن ناس.

فرغم فداحة جرائم عمر البشير ضد مواطنيه فإنه يبقى تلميذا فاشلا صغيرا إذا ما قورن ببشار الأسد وبوتين والمرشد الأعلى الإيراني وحسن نصرالله وقادة الميليشيات العراقية والحوثيين.

فلم يمر يوم واحد على بشار، مثلا، منذ أوائل العام 2011 وحتى اليوم، بدون قصف مدن وقرى وأحياء بالمدافع والقنابل والبراميل المتفجرة، إضافة إلى الاعتقالات الجماعية والتعذيب والتهجير والتغييب.

ورغم كل ذلك فقد أدى اليمين الدستورية في السادس عشر من يوليو 2014 لسبع سنوات أخرى، بعد حصوله على 88.7 في المئة من الأصوات. ثم أُعيد انتخابه لولاية جديدة في مايو الماضي ولغاية 2028.

ومع جيوش بشار الأسد وحزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني والميليشيات العراقية المكلفة من النظام الإيراني بحماية النظام السوري فإن قوات الاحتلال الروسي في سوريا، من جانبها، منذ دخولها إلى سوريا في 2015 وحتى اليوم، تشنُّ حملات قتل جماعي عام شامل ضد المدنيين في حلب وإدلب ودير الزور ومناطق أخرى من سوريا مستخدمة أنواعا جديدة من الأسلحة مثل الخراطيم المتفجرة والنابالم والقنابل العنقودية والقنابل الحارقة والفوسفور الأبيض المحرم دوليًا.

ثم إن ما فعله النظام الإيراني وما يفعله في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن والخليج العربي وخليج عمان، منذ قيامه في العام 1979 وحتى اليوم، يجعل جرائم الروس والأسد والبشير، مجتمعةً، بعوضةً أمام جمل.

ولكن بدلا من أن تغضب العدالة الدولية وترسل قوات غزو مسلحة عالمية لإلقاء القبض على المرشد الأعلى الإيراني ومساعديه العسكريين والأمنيين والمدنيين، ومنهم ابراهيم رئيسي قاتل 30 ألف مواطن إيراني، فقد شارك الاتحاد الأوروبي في حفل تنصيبه رئيسا للجمهورية، وتتمنى الولايات المتحدة وحليفاتها الأوروبية أن يتواضع ويتساهل ويعود إلى طاولة المفاوضات.

ولا يخفى على المحكمة الجنائية الدولية سجلُّ الحشد الشعبي الإيراني العراقي المليء بانتهاكاتٍ ترقى إلى درجة “تطهير عرقي” مارسها في المدن والقرى المحررة من “داعش”، بحسب منظمات محلية ودولية. وقد تنوعت جرائمه في المناطق السنية بين القتل والإخفاء القسري، وقتل مدنيين وأسرى تحت التعذيب، ونهب الآلاف من المنازل قبل حرقها ونسفها، بالإضافة إلى تدمير قرى بالكامل ومنع أهلها من العودة إليها بهدف تغيير التركيبة السكانية فيها.

كما أن الميليشيات الولائية التابعة لإيران تواصل جرائم القتل العمد والاغتيال والخطف والاغتصاب ومصادرة الأراضي والأموال، ثم يسجلها القضاء العراقي ضد مجهول.

الجماهير الغاضبة أصرت على طرده

والأخطر من كل ذلك أن المنتسبين إلى الحشد الشعبي مكفولون من قبل الحكومة العراقية ويحملون سلاحها ويرتدون ملابسها ويقتلون باسمها علنا دون خوف ولا حياء.

أما حزب الله اللبناني فيكفي أن متخصصين أميركيين في مجال مكافحة الإرهاب وثقوا أنشطةً مشبوهة وعمليات إرهابية نفذها على مدار 38 عاما.

وتستند العملية الأرشيفية لأنشطة حزب الله على وثائق من مصادر أساسية وتقارير حكومية رُفعت عنها السرية، إضافة إلى وثائق محاكم وشهادات تم الإدلاء بها أمام الكونغرس الأميركي.

ويقول القائمون على الخارطة إنها أكبر قاعدة بيانات للوثائق المفتوحة المصدر حول أنشطة حزب الله الموالي لإيران والمتهم بتنفيذ خططها التخريبية في منطقة الشرق الأوسط ودول العالم.

أما سجلُّ الحوثيين في الانتهاكات التي اعتبرها العالم الغربي نفسُه جرائم ضد الإنسانية فليس بقليل.

فقد أصدرت مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان تقريرا يؤكد ارتفاع عدد جبهات القتال بين أطراف النزاع في اليمن من 36 في عام 2019 إلى نحو 50 جبهة قتال في مطلع عام 2021، كان آخرها تصعيد جماعة الحوثيين غير المبرر في مأرب شمال اليمن، وهو التصعيد الذي يهدد حياة الآلاف من المدنيين، فضلاً عن تهديد 800 ألف نازح كنتيجة مباشرة لتصاعد الأعمال العدائية من قبل جماعة الحوثي. ويشير التقرير إلى ارتكاب الحوثيين في عام 2020 لنحو 1700 انتهاك تتعلق بالاستهداف المباشر للمدنيين، ناهيك عن المسيّرات التي يرسلها الحوثيون إلى مدن سعودية وسفن تجارية تنفيذا لأوامر النظام الإيراني.

أليس من العدل والضروري القول بأن عمرا بشيرا واحدا لا يكفي؟

العرب