عاد ملف تسليم الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير واثنين من مساعديه إلى المحكمة الجنائية الدولية، بقوة، إلى التداول في الساحة السودانية، ليشكّل موضوعاً جديداً في سياق الخلافات التي لا تتوقف بين المدنيين والعسكر، الشريكين في السلطة. فخلال زيارة المدعي العام الجديد للجنائية الدولية، كريم خان، إلى الخرطوم، الأسبوع الماضي، تحدثت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، عن قرار الحكومة تسليم المطلوبين إلى المحكمة الدولية، مع إشارتها إلى أن الأمر سيُعرض على اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء للموافقة على التسليم. لكن ما هو ظاهر حتى الآن، يؤكد بشكل قطعي وجود تباين واضح في المواقف بين شركاء السلطة الانتقالية في السودان، بشأن تسليم المطلوبين، مع بروز أصوات معارضة لهذه الخطوة، ليصبح الأسبوع الحالي حاسماً في بتّ هذه القضية.
لم تخف حكومة حمدوك عدم ممانعتها تسليم البشير ومساعديه
ومنذ عام 2008، بدأت المحكمة الجنائية الدولية باتهام مسؤولين سودانيين ومتمردين، بالتورط في جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية في إقليم دارفور، غرب السودان، حيث دارت منذ عام 2003 حرب أهلية، قدَّرت منظمات دولية ومجموعات حقوقية عدد قتلاها بنحو 300 ألف، وتسبّبت تلك الحرب في نزوح أكثر من مليوني شخص. وبعد توجيه الاتهامات، لجأت المحكمة إلى إصدار أوامر قبض في حقهم، ومطالبة الحكومة السودانية بتسليمهم.
يقف البشير على رأس تلك القائمة، التي ضمت كذلك أحمد هارون، آخر مساعد له في رئاسة الجمهورية، ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين. لكن نظام البشير رفض التعامل مع المحكمة أو الاعتراف بها، واتهمها بأنها أداة من أدوات الغرب لتركيع الدول، وأنها تمارس تسييساً مطلقاً للعدالة التي تستهدف فقط قادة دول العالم الثالث. بعد سقوط نظام البشير، انتعشت آمال المحكمة والداعمين لها برؤية البشير ورفيقيه داخل قفص الاتهام الموجود في مقر المحكمة في لاهاي، غير أن المجلس العسكري الانتقالي الأول، أعلن رفضه تسليم المطلوبين، معتبراً ذلك مساساً بسيادة السودان، وتعهد بمحاكمة المجموعة أمام القضاء السوداني.
بعد تشكيل الحكومة الانتقالية بالشراكة بين العسكر والمدنيين، تعهّد المدنيون بالتعاون المباشر مع المحكمة الجنائية الدولية. كما حرصت الحركات المتمردة التي تقاتل في دارفور، على تضمين بند داخل اتفاقية السلام الشامل، التي توصلت إليها مع الحكومة الانتقالية في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، ينص صراحة على وجوب مثول المطلوبين أمام المحكمة الدولية، إنصافاً لضحايا الحرب، واعتبرت ذلك جزءاً لا يتجزأ من عملية السلام ووقف الحرب وإبراء الجراحات. ومع تلك المواقف، دشّنت الخرطوم تواصلها مع مكتب الادعاء الدولي، وزارت المدعية السابقة للمحكمة، فاتو بنسودا، البلاد مرتين، واجتمعت مع المسؤولين السودانيين. كما زارت دارفور، المسرح الذي تقول المحكمة إنه شهد الكثير من الفظائع ضد الإنسانية.
والأسبوع الماضي، زار كريم خان السودان، والتقى المسؤولين السودانيين، وبحث معهم التعاون المشترك. وأعلنت وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي بعد لقائها خان، أن “مجلس الوزراء قرر تسليم المطلوبين إلى الجنائية الدولية”، على أن يُعرض الأمر في اجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء للموافقة على التسليم. ورحبت الخارجية الأميركية، بقرار تسليم البشير. وأكد المتحدث باسمها، نيد برايس، أن “ذلك سيكون خطوة كبيرة للسودان في الحرب ضد عقود من الإفلات من العقاب”. بعدها، أعلن خان، خلال مؤتمر صحافي عقده الخميس الماضي في مقر وزارة العدل في الخرطوم، توقيع مذكرة تفاهم جديدة مع الحكومة السودانية، تشمل تسليم جميع الأفراد الذين أصدرت المحكمة أوامر بالقبض عليهم.
يروج العسكر لمحاكمة محلية، مع رقابة ممكنة للمحكمة الجنائية الدولية
ولكن البيانات والتصريحات الصحافية التي أعقبت الاجتماعات، تكشف عن تباين كبير داخل الحكومة الانتقالية، خصوصاً بين العسكر من جهة، والحكومة المدنية والحركات الموقّعة على اتفاق السلام، من جهة أخرى. فحكومة عبد الله حمدوك، لم تُخفِ منذ فترة، عدم ممانعتها تسليم البشير ومساعديه، وأصدرت في هذا الصدد قراراً في يونيو/حزيران الماضي بتسليم المطلوبين، أرادت به في ما يبدو، رمي الكرة في ملعب العسكر. وأوضحت الصادق المهدي، أثناء اجتماعها بخان، أن قرار مجلس الوزراء المعني، يحتاج إلى موافقة اجتماع مشترك بين مجلسي السيادة والوزراء. كما أبدت الحكومة مواقف أكثر وضوحاً لتدعيم فكرة العدالة الانتقالية وإنصاف الضحايا، بمصادقتها في الرابع من شهر أغسطس/آب الحالي، على قانون الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، وهو الانضمام الذي رفضه نظام البشير طوال السنوات الماضية. وكل تلك الخطوات فعلتها حكومة حمدوك لتخاطب بها الضحايا وشركاء السلام، وبعد ذلك المجتمع الدولي الذي يراهن كثيراً على المدنيين في السلطة.
وفي لقاء رئيس الوزراء، الأربعاء الماضي، مع خان، أبلغ حمدوك الأخير بأن التزام حكومته بتحقيق العدالة مطلب شعبي وثوري، وليس التزاما دوليا فقط، وتعهد له بتعاون حكومته مع المحكمة الجنائية الدولية بكل شفافية، وهذا ما سمعه المدعي العام للمحكمة أيضاً، من وزيري العدل والخارجية، نصر الدين عبد الباري والصادق المهدي، اللذين التقاهما كلاً على حدى.
ووجد الموقف الحكومي، توافقاً من الحركات المسلحة في دارفور، التي انضمت للحكم منذ فبراير/شباط الماضي، وذلك في لقاء تم بين المدعي العام للمحكمة واثنين من قادة تلك الحركات، هما الهادي إدريس والطاهر حجر، اللذين هما أيضاً عضوان في مجلس السيادة الانتقالي. كما حرص قائد ثالث، هو مني أركو ميناوي، رئيس حركة تحرير السودان، على المطالبة بتسليم البشير وحسين وهارون، للمحكمة الدولية، أثناء وجود المدعي العام في الخرطوم، وذلك أثناء حفل تنصيبه حاكماً لإقليم دارفور. وتستند الحركات المسلحة في موقفها من تسليم المطلوبين، إلى اتفاق سلام أكتوبر/تشرين الأول 2020 الذي أصبحت بموجبه جزءا أصيلا في الحكم الانتقالي في البلاد، وتحديداً بنود العدالة الانتقالية فيه.
وفي لقاء خان مع النائب العام السوداني، مبارك محمود، بدت ملامح الغموض وتعميم المواقف، إذ أشار بيان صادر من النيابة العامة إلى التعاون بين السودان والمحكمة الجنائية، واستعداد النيابة العامة للتعاون المطلق مع الجنائية في كافة القضايا، خصوصاً قضية ضحايا حرب دارفور وتحقيق العدالة لهم، وأن الطرفين اتفقا على تتويج التفاهمات بتقديم المتهمين للعدالة، من دون الإشارة لا من بعيد أو من قريب إلى تسليمهم للمحكمة الدولية.
أما لقاء خان مع نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فقد أثار غموضاً أكثر من تقديمه إجابات، وأظهر، وفق متابعين، تردد العسكر حيال تسليم البشير وبقية المتهمين. فقد أوضح حميدتي أن اتفاقية السلام مع حركات الكفاح المسلح، أقرت مثول المطلوبين أمام المحكمة الجنائية، لكنه استدرك حديثه، طبقاً للبيان الصادر من مجلس السيادة، بأن الأمر متروك للجهات العدلية في كيفية محاكمتهم. وهو قول يفتح الباب أمام وجود رغبة للعسكر، بالاكتفاء بالمحاكمة داخل السودان، ولو تحت رقابة وتنسيق مع الجنائية الدولية، وهو مقترح روجت له دوائر قريبة من العسكر في الفترات السابقة. أما رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وخلال لقائه مع خان، فلم يصدر منه ما يفيد بأي رد على مطالب المدعي العام بتسليم المطلوبين. ونقل خان نفسه، عن البرهان التزامه بتحقيق العدالة، وتفهمه لتفويض المدعي العام، وأحكام قرار مجلس الأمن الدولي في هذا الصدد.
وجد الموقف الحكومي توافقاً من الحركات المسلحة في دارفور
وفي مؤتمر صحافي، في ختام زيارته للسودان، قال خان، إنه يترقب الاجتماع المشترك بين مجلسي السيادة ومجلس الوزراء، لتبرهن الحكومة السودانية فيه عن مدى التزاماتها بالتعاون مع المحكمة لتحقيق العدالة في دارفور، من دون المزيد من الإبطاء. وأضاف خان، أن اللحظة ستكون حاسمة على السودان، وعليه أن يغتنمها لكي يؤكد بعبارات لا لبس فيها، أنه أنصت إلى صوت شعبه، منوهاً إلى أنه وبعد مرور 17 عاماً على إحالة قضية دارفور للمحكمة، لا تزال حكومة السودان والمحكمة تدينان للمجني عليهم جراء الجرائم الوحشية المدعى ارتكابها في دارفور. وأعطى حديثه هذا مؤشراً على قرار منتظر هذا الأسبوع بشأن واحد من أهم وأخطر تحديات الفترة الانتقالية الهشة في البلاد.
ورداً على قرار الحكومة، أصدرت “الحركة الإسلامية”، الواجهة الحالية لحزب “المؤتمر الوطني” في السودان (حزب البشير) بياناً بتوقيع أمينها العام المكلف، وزير الخارجية الأسبق، علي كرتي، وصف اتجاه الحكومة الانتقالية لتسليم البشير ورفاقه للجنائية الدولية، بأنه “سداد لفواتير العمالة واستجابة لرغبات المنظمات المأجورة، وتمزيق لما تبقى من ثوب الكرامة”. وذكر البيان أن الحركة “ستقف سداً منيعاً” ضد قرارات ما أسمتها بـ”حكومة النشطاء”.
لكن عضو هيئة الدفاع عن البشير، الشيخ النذير الطيب، استبعد صدور قرار بتسليم المطلوبين للمحكمة الدولية، قائلاً إنه ليس هناك مؤشرات حقيقية حتى بعد زيارة المدعي العام للمحكمة، وليس هناك مستجدات أخرى تدفع الحكومة إلى اتخاذ قرار بمثل هذه الخطورة والتأثير، كما أن رئيس مجلس السيادة حسم منذ فترة قراره بعدم التسليم، منوهاً إلى أن كل ما صدر من كلام غير ذلك هو للاستهلاك السياسي فقط، وأن ما أتت به حكومة حمدوك لا يعدو، بحسب تقديره، محاولة لتبييض الوجه أمام المجتمع الدولي، وأن الحكومة غير ملزمة لا قانوناً ولا أخلاقاً بالتسليم .
ورأى الطيب، في حديث مع “العربي الجديد”، أن هناك تباينا واضحا في المواقف داخل السلطة الانتقالية، كما أن عملية التسليم نفسها ستجر قادة عسكريين في السلطة الآن مثل البرهان ونائبه حميدتي، لأنهما وقت تلك الجرائم كانا من القادة الميدانيين، وربما تحملا كل التبعات الجنائية التي لن يتحملها البشير، ولا وزير دفاعه، ولا أحمد هارون، لأنها تجاوزات ميدانية، ولم تحدث بأوامر مباشرة. وراهن الطيب على عدم اتخاذ قرار التسليم بواسطة الحكومة الانتقالية، لأنها تعلم رد فعل “الحركة الإسلامية” و”المؤتمر الوطني”، وهو رد فعل ربما يشعل البلاد ويأتي بنتائج كارثية، خصوصاً مع وضع البلد الهش أصلاً، متوقعاً حدوث رد فعل شعبي من خارج صندوق الموالين للنظام السابق، والذين يرون في القرار سقطة أخلاقية وقانونية، وكلفة مالية، حيث يستوجب على السودان، دفع كل تكاليف المحاكمات.
وعلى العكس من كل ذلك، قطع عضو هيئة اتهام البشير في قضية الانقلاب، المحامي معز حضرة، بحتمية مثول البشير وعبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون، أمام الجنائية الدولية، لأن أمر إحالة ملف دارفور للمحكمة صادر من مجلس الأمن الدولي، كما أن الجرائم المعنية ارتكبت في العامين 2004 و2005، وفي تلك السنوات، لم يكن في القانون السوداني، نصوص خاصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وهي مواد سُنت بعد ذلك في عامي 2009 و2011، بالتالي لا مجال أمام البشير لمحاكمته داخلياً، والخيار الوحيد هو محاكمته أمام المحكمة الدولية.
ورأى حضرة، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن هناك سبباً آخر يدفع نحو التسليم، مرتبط بمطالب الضحايا الذين يصرون على المحكمة الجنائية الدولية، والاستجابة لطلبهم هو جزء من العدالة، مؤكداً أنه لا وجود لعقبات ولا تباين داخل شركاء الفترة الانتقالية حول الموضوع المتفق عليه بتوافق تام حتى مع العسكر، مشيراً إلى أن من أسماهم فلول النظام هم من يروجون لتلك العقبات. وأوضح حضرة، أن مثول البشير أمام المحكمة الدولية لا يعني إفلاته من العقاب في جرائم أخرى، مثل جريمة الانقلاب على السلطة الشرعية (1989)، ومجزرة العيلفون (1998) وجريمة إعدام ضباط 28 رمضان 1990، وغيرها من الجرائم، متوقعاً أن “تتم كل المحاكمات، ليقدم السودان فيها نموذجاً لكل العالم بتطبيق مبدأ عدم إفلات المجرمين من العقاب”.
العربي الجديد