في عام 1925 أسَرَ شاه بلاد فارس حينها، رضا خان، آخر أمراء إمارة عربستان، خزعل الكعبي. حدث ذلك حينما تخلّت بريطانيا عن خزعل، وتحالفت مع الشاه لمواجهة روسيا التي اقتطعت مناطق واسعة من أذربيجان، وكانت تطمح للسيطرة على إيران، للوصول إلى الخليج العربي؛ فأُسر، ووضع تحت الإقامة الجبرية، وقُتل في 1937.
لعنة النفط وتاريخ عربستان
كانت لعنة اكتشاف النفط وبداية استخراجه من مدينة مسجد سليمان 1908، وإنشاء أكبر مصفاة للنفط في عبادان عام 1913، المدخل لإنهاء الإمارة، وتعظيم شأن إيران، وتوكيلها شرطي المنطقة. منذ ذاك التاريخ، تعرّض إقليم عربستان، أو ما سمته لاحقاً حكومة الشاه خوزستان، لعملية تفريس، وتغيير ديمغرافيته، وفي ذلك، قضى الإقليم قرناً كاملاً، من التغيير لهويته التاريخية. مورست ضده كل أشكال التعسّف، وليس تغيير مسارات أنهاره، وتصحير بيئته الطبيعية، وتجفيف مستنقعاته فحسب، إذ جُلب عشرات الآلاف من غير العرب إليه، ويُسمّي الأهوازيون مناطق هؤلاء المستوطنات، أي المحتلين. قضية حرمان الإقليم من الماء، أخيرا، هي الشرارة في الانتفاضة الجديدة التي بدأت في 15 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)؛ بينما القضية الأساسية تتعلق بنتائج سياسات ممنهجة مضادّة للعرب، وليست مقتصرة على نظام ما بعد 1979 بل منذ قرنٍ، وقبله كانت الأهواز، أو الأحواز، دولة موحدة منذ 637 وإلى 1925. زاد من تمايز الأهواز، مع بداية القرن السادس عشر، تَشكُل إمارة المشعشعية، وانتقل الحكم في القرن الثامن عشر إلى أسرة الكعبي من بعدها.
قبل سيطرة نظام رضا شاه، ظلّت عربستان مستقلة، وتأسّست فيها دول كثيرة، وكان معترفا بها من الدولتين، العثمانية والصفوية، ويمتد تاريخها إلى ما قبل الإسلام، ومنذ أن تراجعت مياه شط العرب، فتدفقت نحوها هجراتٌ عربية من محيطها العربي، العراق والخليج، وهي امتدادٌ بشريٌّ وطبيعي لهما. كما “سايكس بيكو” البريطاني الفرنسي قَسّمَ البلاد العربية، كذلك فعلت بريطانيا بإقليم عربستان، وأجهزت عليه عبر تحالفها مع دولة الشاه في مواجهة الدولة الاشتراكية السوفييتية حينها.
ثروات الإقليم
هناك معلومات تخصّ هذا الإقليم، وأهميته لإيران تكمن هنا، إذ تستخرج الأخيرة أكثر من 75% من النفط والغاز منه، وفيه أكبر ثروة مائية، غير متوفرة في بقية الأقاليم، إذ يشمل خمسة أنهر، وأهمها كارون، وهناك الكراخة والدز والجراحي، وسواها، وأدّى سوء استثمار العاصمة في مياه الأنهر إلى الجفاف الكامل لكل من الكرخة والجراحي، وتصحّرت أراض كثيرة في الأهواز، واختفت مئات الأنواع من الطيور النادرة، وتلاشت مزارع البلح والأرز، وشهد الإقليم هجرةً واسعةً من عربه إلى مدن الداخل، والعيش بأسوأ أشكال الحياة. وتعدّ مدن الأهواز من أكثر المدن تلوثاً في العالم، بسبب مصافي النفط والمعامل الكيماوية التي لا يتم توظيف العرب فيها بأكثر 5%، وفقاً لتصريح ممثل المرشد الأعلى في الأحواز محسن حيدري، مع أن تلك المنشآت في أرضهم التاريخية. عدد سكان الإقليم يقترب من ثمانية ملايين، وهناك من يتحدث عن ستة ملايين عربي، وفيها قوميات أخرى، ولكن بأعداد قليلة.
وقف إقليم الأهواز مع الثورة الإسلامية، وأوقفت مظاهراته الإنتاج النفطي فيه، على أمل أن قادة الثورة سيعطون الإقليم حكماً ذاتياً
الأهواز، إذاً إقليم عربي، طبيعياً وبشرياً، ولكنه لم يجد دعماً عربياً للمحافظة على استقلاله، فقد كان العرب يُقسّمون وفق سايكس بيكو، وزُرعت في أراضيهم الصهيونية، وكذلك تم اقتطاع مناطق واسعة من سورية وألحقت بتركيا، وهناك أقاليم وجزر كثيرة ألحقت بدول غير عربية.
هيمنة الفرس على الإقليم
خضع إقليم عربستان تحت الحكم البهلوي، لهيمنة العنصر الفارسي، وصودرت أملاك الأمير خزعل وآخرين، وتمّ تهميش الطبقات العليا في الإقليم، وحلّ مكانها فُرس، وبالتالي مُنع التطور الطبيعي للإقليم. وهنا لا يفوتنا أن الأمير خزعل كان ضيق الأفق، فلم يهتم بالتعليم، وإرسال الطلاب إلى أوروبا، وكذلك لم تكن علاقته جيدة مع قبائلٍ عربية تسكن الإقليم! فتح الشاه باب الهجرة العمالية وغير العمالية، والعادية والمخطّط لها، وبهدف تغيير البنية الديمغرافية، وإبعاد الأكثرية العربية عن تبوؤ المناصب الأساسية في عربستان. الحكم البهلوي والحكم الإسلامي اعتمدا سياسة تغيير أسماء المدن والبلدات والأنهر والرموز، وحتى الزي الشعبي تمّ منعه، والأسوأ تمّ ما بعد الإسلامي، حيث بنت الدولة مئات السدود على الأنهر، وحوّلت مياهها إلى المدن الفارسية. يضاف إلى ذلك كله أن الحكم البهلوي منع التعليم باللغة العربية منعاً باتاً، وهذا لعب دوراً كبيراً في تغييب الوعي الحديث، وانتشار الأمية، ومنع الأفراد من تحصيل خبراتٍ علمية، هي ضرورة لكل مجالات الحياة، ومنعته من تشكل الوعي السياسي الحديث. ونتيجة ذلك، ظلّت البنية القبلية قويّة في الإقليم. على الرغم من ذلك، تشكلت قوى سياسية قومية في الخمسينيات، وراحت ترفع شعاراتٍ تتعلق بعروبة الإقليم، وتزامن ذلك مع المد القومي العربي، بدءاً من مصر وصولاً إلى العراق، وسورية، ودفع ذلك الحكم الإيراني إلى مزيدٍ من القمع والعسف ضد الإقليم، ومتابعة تغيير ديمغرافيته، وبمختلف الأشكال.
خذلان الثورة الإسلامية الإقليم
وقف إقليم الأهواز مع الثورة الإسلامية، وأوقفت مظاهراته الإنتاج النفطي فيه، على أمل أن قادة الثورة سيعطون الإقليم حكماً ذاتياً، أو سيتم الاعتراف بحقوق سكانه التاريخية، وستتم إزاحة كل أشكال المظالم السابقة. لم يكن نصيب الإقليم من الإنصاف إلا كحال بقية القوى التي تحالفت مع الإسلاميين، أي الاعتقال والإعدام، والطرد خارج البلاد، سعياً إلى تأسيس جمهورية إسلامية خالصة، تدين بالولاء الكامل لولاية الفقيه، وتعتمد بصورة أساسية على القومية الفارسية، وتهميش بقية القوميات. السيئ في ذلك كله أن الفرس ليسوا القومية العظمى وحدها، وهناك قومياتٌ كثيرة، كالأذرية والكردية والعربية والبلوش واللور والتركمانية. ويشار عادة إلى أن إيران بلد القوميات المتعدّدة. الأمر الأخير، إضافة إلى سوء الإدارات وفي مناحي الحياة كافة، والعقوبات الدولية، أدّى إلى تدهور كامل في إيران، ولم تتوقف المظاهرات طيلة عمر هذه الجمهورية الإسلامية، ويشار هنا إلى المظاهرات الطلابية الضخمة في 1999، والتي اشتدّت بشكل كبير بعد عام 2017.
أعطت الثورة الإسلامية أهالي الإقليم بعض الحقوق، وتتعلق بالتمثيل بالنقابات والحريات الفردية، لكنها قمعت بشكل كبير أي تطلعات سياسية
يرى محلّلون أهواز أن التضامن مع انتفاضة شعبهم أخيرا كان كبيراً، ومن قوميات لم تتضامن مع الثورة الخضراء 2009، وتظاهرات 2019، والمقصود هنا الأذرية، وهذا يعني أن مشكلات إيران لم تعد تتعلق بالجانب الاقتصادي، بل تعدّته إلى المطالبة بحق تقرير المصير للقوميات، أو تغيير كامل في النظام السياسي، إلى جانب شعارات مطلبية، وهذا يتعارض مع وصول إبراهيم رئيسي أخيرا إلى رئاسة بلاده. وبالتالي، ستشهد إيران مزيداً من الاحتجاجات مستقبلاً، وستكون أكثر ضراوة. الفكرة الأخيرة تتعلق باستلام ولي الفقيه وممثل الحرس الثوري، رئيسي، الحكم، وتهميش الإصلاحيين والمعتدلين، وشعور القوميات من غير الفرس بالتهميش، وشعور قطاعات واسعة من الفرس بالتهميش لمصلحة سيادة مطلقة للحرس الثوري. لاحظ هنا الانتقادات الشديدة التي وجهها كل من الرئيسين السابقين، أحمدي نجاد ومحمد خاتمي، إلى النظام في مأساة الأهواز.
لقد ناصر أهالي الإقليم الثورة الإسلامية، ولكن الأخيرة، وإن أعطت أهالي الإقليم بعض الحقوق، وتتعلق بالتمثيل بالنقابات والحريات الفردية، ولكنها قمعت بشكل كبير أي تطلعات سياسية. قمعت المطالبة بحكم ذاتي بعد الثورة بشدة، وارتكب حاكم الإقليم حينها، الجنرال أحمد مدني، مجزرة راح ضحيتها أكثر من 817 شهيدا، وما يقارب 1500 جريح، وآلاف المعتقلين. تَفجّرَ الاحتقان المجتمعي في 2005، إثر رسالة سُرّبت من محمد أبطحي، مستشار الرئيس خاتمي، وإن نفاها هذا الرجل، وتحدّث فيها عن تدابير من شأنها تقليص نسبة العرب في الأهواز، من خلال خطة لتعديل التركيبة السكانية ونقل العرب إلى شمال إيران!
وقد اندلعت في 2011 الاحتجاجات بتأثير من الربيع العربي، ولكنها لم تُغَطَّ إعلامياً، وتمكن النظام من قمع الأولى والثانية. ويتخوف النظام في طهران من أهالي الإقليم، إذ ينتمون فعلياً إلى العالم العربي، ولهذا مارس السياسات العنصرية ضد الإقليم، ولم يميّز بين شيعة وسنة من أهله. وقد طاول التهميش أوجه الحياة كافة، وزاد الأمر سوءاً أن آثار الحرب العراقية الإيرانية بين 1980 و1989 لم يتم احتواؤها، فظلَّت أكثر من 400 قرية مدمرة، ولم تُفكك مخلفات الحرب من قنابل وألغام وسواهما، والتي ما زالت تنفجر بالأهالي، ولم يُعَد إعمار البنية التحتية. كان أي إعمار يتمّ في قرى وبلدات عربستان يتمّ من الأهالي، أي لم توضع أية خطة للإنماء، وبالتالي شعر العرب هنا بالغبن الشديد. ويشار في ذلك إلى أن أكثرية الإقليم من الشيعة، وقد هجر قسم منهم في التسعينيات خصوصا، ذلك المذهب نحو المذهب السني، وذلك بسبب السياسات العنصرية ضدهم من طهران، وكونهم شيعة لم يشفع لهم عند نظام ولي الفقيه الشيعي، وهذا ما يوضح الطبيعة العنصرية للقمع، والإشكال الوطني الكبير في إيران، حيث التفريس لا يمكن أن يشكل هويةً وطنيةً، وبالتأكيد ليس هوية قومية، وبالتالي ما زالت المسألة القومية مطروحة بقوة على طاولة النظام هناك.
تتركز الأزمات التي تتزايد في إيران، بشكل خاص، لدى الكرد والعرب والأذريين، وسواهم، وهناك الرفض الشعبي الإيراني الواسع لفكرة الاستمرار بنظام ولي الفقيه والحرس الثوري
الاحتجاجات في الإقليم وفي إيران
التهميش والإفقار والإذلال والتجهيل، وحرمان أهالي إقليم عربستان من ثرواته، ورفض توظيف عمالته في قطاعات النفط ومزارع قصب السكر ومصانع الكيميائيات، وغيرها، فهمها جيداً الأهالي، ولهذا شاركوا بمختلف أشكال الاحتجاج التي اندلعت في أقاليم إيران، وصولاً إلى الاحتجاجات أخيرا، والتي ليست مقطوعة الصلة عن سابقاتها، وهي استمرار لاحتجاجات سابقة رفضت تحويل مسار الأنهر، وتصحير أراضيهم، والمطالبة بحقوقهم الثقافية والاقتصادية والسياسية. الجديد هو التضامن العام في مختلف قوميات إيران. كذلك الإفراج الفوري من نظام إيران عن المعتقلين، وكثرة التصريحات الحكومية، والتي حملت نفسها مسؤولة تهميش أهالي الإقليم، ولكنها لم تتطرّق لسوء الإدارة في الشؤون المائية والاقتصادية والسياسية والقومية. الإقليم هو من أهم أقاليم إيران لناحية الثروات النفطية والمائية. وبالطبع، يتم إنتاج كمية كبيرة من الكهرباء عن طريق السدود التي بنتها الحكومية، وكان تأثيرها كارثياً على الأهالي، سيما عبر تحويل مياه الأنهار أو في أثناء فترة الفيضانات، حيث تُغمر الأراضي والقرى بالمياه. وبالتالي، صار الإقليم يعاني من شحّ المياه، ودمرت زراعته وحيواناته. ومن ناحية أخرى لا يتم توظيفهم في المعامل المقامة على أرضه، والمتعلقة بالطاقة والتصدير. وفوق هذا وذاك، يتم بناء مستوطنات من قوميات أخرى.
منذ 2017، هناك مشكلات كبرى تواجهها إيران، وتبدأ بانهيار مستوى المعيشة، وانقطاع الكهرباء ومشكلة المياه والبطالة العالية، وهناك الجفاف، والعقوبات الخارجية، والاحتجاجات العمالية والطلابية، والسياسية، وتعاني من هذه المشكلات فئات واسعة ومن مختلف القوميات، وعدا ذلك كله، هناك انتشار وباء كورونا، والعدد الكبير من الوفيات من جرّاء سوء إدارة القطاع الصحي. كان أسوأ خيار لنظام ولي الفقيه، وهو يعاني من كل هذه الأزمات اختيار إبراهيم رئيسي، الرئيس المتهم بإنزال عقوبة الإعدام بآلاف المعتقلين السياسيين في 1988. إيران بحاجة إلى إصلاح جذري، لتتوقف المظاهرات، وما يتجه إليه نظام الحكم، يقول العكس تماماً.
تتركز الأزمات التي تتزايد في إيران، بشكل خاص، لدى الكرد والعرب والأذريين، وسواهم، وهناك الرفض الشعبي الإيراني الواسع لفكرة الاستمرار بنظام ولي الفقيه والحرس الثوري. هنا نضيف أنه إذا استمرّت العقوبات، ولم تستطع الحكومة إنجاز الاتفاق النووي، والإفراج عن مليارات الدولارات، فإن إيران متجهة نحو مزيد من الثورات. كذلك رفض النظام مناقشة مسألة الصواريخ والوجود الإقليمي، وعمل على استعداء العرب، والغرب أخيرا، ولا سيما مع مشكلة الاستيلاء على السفن. وبالتالي، سيجد نظام طهران نفسه مستقبلاً إزاء مواجهات داخلية وخارجية، ولن يستفيد كثيراً من ادّعاءاته أن المظاهرات ذات دعم خارجي، ومؤامرة من أعداء الثورة ومثيري الشغب، وسواه. ولا تقدّم هذه العقلية حلولاً لمشكلات إقليم عربستان ولبقية القوميات.
في ضرورة سياسات جديدة
طالب أهل عربستان بحكم ذاتي، وهناك من يسعى نحو حق تقرير المصير، ولكن أوضاع العالم العربي، والسياسات العالمية، ليست بصدد تفكيك إيران أو العراق وحتى سورية. ولنلاحظ كيف رفض الأميركان فكرة انفصال كردستان العراق عنه، وبالتالي ليس هناك من دعمٍ دولي لحق تقرير المصير. الممكن لأهالي عربستان هو الحكم الذاتي، أو تطبيق مركزية لا إدارية على عموم أقاليم إيران. سيعيد هذا ربط القوميات بالعرق الفارسي، وبطهران من جديد، ويؤسّس لوطنية إيرانية حقة. طبعاً سيكون لأهالي الأقاليم الحقوق الكاملة في اختيار برلماناتهم وحكوماتهم، وبالتفاهم مع المركز. وضمناً، لا بد من دستورٍ جديد، يعترف بالتعدد القومي، وإنهاء ملفات التهجير القسري والممنهج، واستفادة أهالي الأقاليم من ثرواتها الطبيعية. إيران أمام خيارات محددة، إمّا الاعتراف بحقوق الأقاليم والأكثرية في حياة أفضل وفي مستويات الحياة كافة، وسياسياً، أو استمرار المظاهرات وتوسعها، وتَدخّل الخارج. ليس في مقدور مؤسسات ولي الفقيه والحرس الثوري والاستخبارات مواجهة أكثرية الشعب الإيراني. ويوضح استمرار المظاهرات وتعدد فئاتها منذ 2017 أن وضع هذا البلد يحتاج سياسات جديدة، تتصالح مع الداخل، وتسحب مليشياتها من الدواخل العربية.
تحتاج إيران إصلاحات شاملة، تخصّ نظام الحكم، والتخلي عن ولاية الفقيه، وإنهاء مؤسسات سياسية، كمؤسسة تشخيص النظام، ودمج الحرس الثوري بالجيش الإيراني
لن تتحقق الفرضية السابقة لما ذكرناه أعلاه. التضامن أخيرا بين الأذريين والعرب والكرد ووصول المظاهرات إلى قلب العاصمة، ومن كل القوميات، يؤشّر لروح جديدة في إيران، وليس باتجاه هوية وطنية واحدة، أو الاستمرار بالصمت إزاء ممارسات التفريس. كَسرت الروح الجديدة التابوات القديمة، وصارت الشعارات تتعلق بإسقاط الجمهورية الإسلامية، وولي الفقيه، وسحب المليشيات من الدواخل العربية والمطالبة بمختلف أشكال الحقوق، وأهل إيران أحقّ بالمليارات التي تدفع للمليشيات الطائفية في الدول العربية وتخرّب بناها الاجتماعية. استمرار الخيار الأمني في التعامل مع مشكلات إيران، ومنذ 1979، لم يعد خياراً صائباً، وراكم كتلة بشرية هائلة، ومن كل القوميات، رافضة نظام الحكم، وتؤذن بضرورة تغييره.
شهدت الانتخابات الرئاسية مقاطعة واسعة في إيران. وفي الأهواز، كانت أقل نسبة مشاركة منذ الثورة. الوضع الإيراني لا يمكن أن يُعالج ببعض التصريحات من ولي الفقيه، أو قادة الحرس الثوري وسواه، عن ضرورة تخفيف مشكلات إقليم الأهواز. القضية الآن أن الأزمة شاملة في إيران، وتغطي كل أوجه الحياة، وتتطلب سياسات جديدة. وطهران لا تفكر بذلك، ولا سيما مع تولي إبراهيم رئيسي الحكم، للأسباب أعلاه.
الإصلاحات في إيران
تحتاج إيران إصلاحات شاملة، تخص نظام الحكم، والتخلي عن ولاية الفقيه، وإنهاء مؤسسات سياسية، كمؤسسة تشخيص النظام، ودمج الحرس الثوري بالجيش الإيراني، وإنهاء الصلاحيات الكبرى لولي الفقيه، ونقلها إلى الرئيس والحكومة وبقية السلطات، وإلغاء فكرة التفريس للقوميات، والتشكيك بالقوميات المحاذية للحدود. وبالتالي، حرمانها من التنمية، واعتبار المظاهرات من أعداء الثورة، وإشراك ممثلين عن كل القوميات في إدارة شؤون الدولة، وأن يتم تغيير الدستور والاعتراف بالقوميات وبرموزها، وثقافتها ولغاتها.
التخلص من سوء التخطيط في الأمور الاقتصادية، سيما في قضايا الماء والكهرباء والبطالة والإفقار الكبير، وإعادة النظر بكل السدود المقامة بشكل جائر على الأنهار، وإيقاف التصحير وتدمير الزراعة في عربستان، وقد تنتقل السياسة ذاتها إلى كردستان. ولهذا نجد تضامناً واسعاً من الأخيرة مع عربستان، ويضاف إلى ذلك المظالم الكبرى التي يتعرّض لها الكرد. إعادة التوازن إلى التنمية، وجعلها عامة في مختلف أقاليم إيران، هو الأساس لتشكيل هوية وطنية، بدلاً مما وصلت إليه البلاد من هويات قومية متعدّدة، تشي بمزيد من التفكيك الاجتماعي والسياسي في إيران، وهذا كله بسبب سياسات العاصمة.
وضع سياسة جديدة للعلاقة مع العالم العربي، والتخلص من سياسة تصدير الثورة، وتشكيل الجيوش التابعة للحرس الثوري في إيران، حيث حزب الله والحشد الشعبي والحوثيون ومليشيات كثيرة في سورية، هي بمثابة جيوش تابعة لإيران، وتخرب الدواخل العربية، وتُجذر العداء بين الفرس والعرب في الدول العربية وداخل إيران ذاتها. القضية هذه أصبحت مطروحة بقوة داخل إيران، حيث لا فائدة حقيقية من هذه الجيوش، وقد لعبت دوراً خطيراً في الأزمة الاقتصادية والسياسية.
النظام الإيراني يتوهم كثيراً عن إمكانية أن تكون إيران أقوى دولة في المنطقة، وأن تُعامل دول المنطقة إيران وفقاً لهذا الاعتبار
في هذا الإطار، أخفق النظام الإيراني في إيجاد علاقات جادّة مع العالم الذي يطالبها باتفاق نووي، يلغي خطورة التطوّر النووي على إيران وشعوب المنطقة، ويطالبه بإنهاء برنامجه الصاروخي وسحب مليشياته الطائفية من الدول العربية. تغيير ذلك كله، والاعتراف بالسياسات الخاطئة إزاء العراق وسورية واليمن ولبنان، سيكون المفتاح لإعادة علاقات طبيعية بين قوميات المنطقة. والنظام الحالي لا يعير هذه القضية أهمية، ويستمر بتصدير الثورة والجيوش.
إنهاء الاحتكار السياسي لصالح هيمنة مؤسسة ولي الفقيه والتابعين لها، وإطلاق الحريات العامة، وحرية الصحافة والتعبير وتشكيل الأحزاب، وما حصل في آخر انتخابات، ليس جديداً، حيث منعت مؤسسة مجلس صيانة الدستور عشرات من الترشح، أي من أفراد مرتبطين بولي الفقيه، وهذا يعني أن القمع والديكتاتورية هي طبيعة النظام الإيراني، إضافة إلى التمييز العرقي ضد القوميات من غير الفرس، والسؤال هنا: إذا حُرمت شخصيات من صلب النظام، من الترشح كمحمود أحمدي نجاد، فما هو وضع الحريات في بقية الأقاليم؟ أيضاً يجب إنهاء الملفات العالقة من إعدامات ومعتقلات وسجون لآلاف السياسيين. وضمن ذلك، لا بد من الاعتراف بحقوق القوميات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، والتخلص من عقلية الوصاية والتفريس.
سياسات جديدة ضد إيران
لم تشذ حكومات الجمهورية الإسلامية عن فكرة الحكم البهلوي، والماثلة في رؤية إيران “شعب واحد، بلد واحد، لغة واحدة”. والمصيبة أن كثرة من المحللين يجزمون في أن النظام الحالي غير قابل للإصلاح. وثمة من يرى أن انتخاب رئيسي يصبّ في هذا المنحى، بل يُعتبر وصوله بمثابة إنهاء أية مؤسسات في النظام يهيمن عليها الإصلاحيون والمعتدلون. هذا يعني أن النظام الإيراني يتوهم كثيراً عن إمكانية أن تكون إيران أقوى دولة في المنطقة، وأن تُعامل دول المنطقة إيران وفقاً لهذا الاعتبار، وكذلك دول العالم. لقد استفادت إيران كثيراً من التنسيق مع واشنطن في الحربين على العراق وأفغانستان، وعزّزت وجودها في العراق والدول العربية بشكل يهدّد تلك الدواخل. أرادت واشطن لإيران أن تنافس تركيا وإسرائيل على المنطقة، ولكن مشكلة إيران أنها تريد الهيمنة على المنطقة. ولهذا هي الوحيدة التي شكلت جيوشاً في البلاد العربية، ومارست كل أشكال المظلومية والتركيع للشعوب العربية. زاوية الرؤية هذه، والتي ترى القيادة الإيرانية منها منطقتنا والعالم، لم تعد صالحة. الأميركان والإسرائيليون والروس والأتراك، وهناك تحالف لبعض الدول العربية مع إسرائيل؛ هذه الدول بأكملها، إضافة إلى بقية الدول العربية رافضة للسياسات الإيرانية. وأزمة إيران ليست هنا فقط، بل وفي الداخل الذي لم يهدأ منذ 2017، وبالتالي النظام أمام خيارات محددة، أن يتراجع عن سياساته الداخلية والخارجية، أو هو سائر نحو حروب إقليمية وأهلية.
حاجات الشعوب الإيرانية كثيرة وتتعاظم. وبالتالي، وبغياب أحزاب وقوى سياسية عابرة للقوميات، وفاعلة ومؤثرة، فإن إيران قد تتعرّض في السنوات المقبلة لمختلف المخاطر
يتصاعد أخيرا العداء بين أميركا وإيران، وبين الأخيرة وإسرائيل. هذا جديد. الرد الإيراني بتحريك أذرعها هنا وهناك لم يعد مفيداً، سيما مع انفضاض كثير من الكتل الفارسية ومن الموالين للجمهورية الإسلامية ومن القوميات الأخرى. التعقيد الكبير داخلياً وخارجياً هذا يأذن بأن إيران تمرّ بأصعب مراحلها، وكما لم يكن متصوّراً إمكانية سقوط نظام الشاه، فإن نظام ولي الفقيه بدوره يمكن أن يرحل. “التوكيل” الأميركي لإيران في العراق، وتخريب الدواخل العربية، لم يعد ممكناً، وفي هذا نضيف أن إيران وقعت عقودا اقتصادية كبيرة مع الصين، وعلاقتها قوية مع روسيا، بينما السياسة الأميركية تنبني في الوقت الراهن على مواجهة الصين. إذاً التحالف البريطاني بين شاه إيران في 1925، أو لحظة احتلال العراق، لن يتكرّر حالياً، بل هناك تراجع عن التوكيل أعلاه، ولصالح تشديد العقوبات، وعدم التراجع عنها قبل أن تعود إيران إلى حجمها الطبيعي، كدولة قوية إقليمياً، كما بقية الدول الفاعلة في الشرق الأوسط.
هل اقترب النظام الإيراني من نهايته؟
أكثر صادرات إيران، 80% من مشتقات النفط، وهي موجودة في عربستان! إذاً دولة ريعية، والوضع الاقتصادي في غاية التأزم، والبنى التحتية شديدة السوء، والبطالة في ارتفاع وتزداد لدى غير الفرس. على الرغم من ذلك، يستمر النظام بسياسة تصدير الثورة، والتي، ومن عقود خلت، لم تعد تغطي الأزمة الداخلية العميقة، ولم يعد الإيرانيون يقبلون بمقايضتها بالصمت، طالما تتوسع إيران إقليمياً.
أزمة المياه في إقليم عربستان أصابت كذلك محافظة ديالى العراقية وغيرها، حيث ساهم تغيير مسارات الأنهر في تجفيف مزارع المدينة، وأحدث أزمة مائية هناك، بينما الاتفاقيات الدولية تضمن حقوق الدول في الماء، بغض النظر عن منبعها. هذه الأزمة وكل أشكال المظلومية لن تتوقف، وهذا يعني أن النظام الإيراني قد يلجأ إلى أسوأ أشكال العنف مستقبلا، والتضييق على الحريات، ولكنه بذلك يشكل الكتلة التاريخية الشعبية، ومن كل القوميات للقيام بثورةٍ.
لم تعد قضية إيران تتعلق بمظالم إقليم عربستان و”ثورة العطش” أو بمظالم تخصّ القومية الكردية، ويشكلون 10% من سكان البلد، لقد أصبحت تكمن في سقوط الأيديولوجيا والسياسات التي أوصلت الخميني إلى الحكم، وبعده خامنئي إلى ولاية الفقيه، بل إن دولة ولي الفقيه أصبحت بدورها نافلة. أن يتكرّر رفع شعار “إسقاط خامنئي” و”الموت للجمهورية الإسلامية”، وإحراق تمثال لقاسم سليماني، فهذا يعني أن أزمة الحكم شديدة. مشكلة الشعب الإيراني حالياً في الانقسامات الشديدة “العمودية والأفقية” التي أحدثها النظام الإسلامي، وهي ذاتها المشكلات التي كرّستها الأنظمة العربية، وأعاقت نجاح الثورات فيها؛ فهل تتّجه إيران نحو ثورة شعبية، تتجاوز الانقسامات القومية، والطائفية، والسابقة الذكر، وتحقق أهداف قوميات إيران بالمساواة والعدالة والمواطنية؟
المسألة في غاية التعقيد، وحاجات الشعوب الإيرانية كثيرة وتتعاظم. وبالتالي، وبغياب أحزاب وقوى سياسية عابرة للقوميات، وفاعلة ومؤثرة، فإن إيران قد تتعرّض في السنوات المقبلة لمختلف المخاطر؛ على الرغم من ذلك، من الهام رؤية التضامن أخيرا بين العرب والكرد والأذريين، وكتل كبيرة من القوميات الأخرى، حتى الفارسية.
ما يحدث في العراق وسورية واليمن قد يتكرر أيضاً في إيران، وقد لا يتكرّر إن تولدت عن التضامن الواسع مع ثورة عربستان حركات سياسية عابرة للقوميات.
عمار ديوب
العربي الجديد