انهيار الجيوش أمام الميليشيات: لا تسأل عن السلاح بل عن انعدام العقيدة الوطنية

انهيار الجيوش أمام الميليشيات: لا تسأل عن السلاح بل عن انعدام العقيدة الوطنية

ركزت غالبية التحليلات الإخبارية على ضعف القوات الأفغانية وانسحابها من دون قتال أمام عناصر طالبان، منددة بالخطط الأميركية في إعداد هذا الجيش الذي شكل على مدار عقدين وتدريبه وتسليحه،. لكن غالبية هذه التحليلات لم تأخذ في الاعتبار انعدام العقيدة الوطنية لجيش شكلته قوات أميركية محتلة.

استعيدت مع استيلاء طالبان على المدن الأفغانية صورة بدلة عسكرية برتبة عالية مرمية على الأرض في مدينة الموصل بعد هروب الجيش العراقي عام 2014 أمام تقدم عناصر تنظيم داعش الإرهابي، بوصفها معبّرة بامتياز عن الصدمة آنذاك.

ومثّلت العودة إلى تلك الصورة وإعادة نشرها مع صور انهيار الجيش الأفغاني أمام تقدم عناصر حركة طالبان بسرعة تفوق التوقع، فرصة للتركيز على عقيدة الجيوش كعامل قوة لا يقل عن التسليح والتدريب.

اللواء عبدالرافع درويش: العقيدة الوطنية للجيوش لا تنفصل عن التركيبة المجتمعية للدول

ويفتقر الجيش العراقي الذي تم تأسيسه من قبل القوات الأميركية المحتلة عام 2003 بعد حلّ الجيش الوطني السابق، إلى العقيدة الوطنية عندما غلبت عليه الولاءات الطائفية إلى درجة كان يتم أداء قسم تخرج الضباط في المراقد الدينية. كما أن رتبا عسكرية عالية منحت إلى عناصر من قادة الميليشيات مع أنهم جهلة في العلوم العسكرية.

ويفتقر الجيش الأفغاني المنهار أمام طالبان إلى العقيدة الوطنية، عندما تم إعداده وتدريبه من قبل القوات الأميركية، وكان عناصره أشبه بباحثين عن “الرزق والوظيفة” أو مجرد عملاء عند القوات الأميركية.

ومع أن لا أحد من مراتب الجيش الأفغاني يتعاطف مع طالبان، إلا أنهم جميعا انسحبوا أمام عناصرها وتركوا أسلحتهم ومعسكراتهم، كما فعل الجيش العراقي بهروبه أمام عناصر داعش غير المنظمين ويقاتلون بأسلحة تقليدية.

وأصيب كبار مستشاري الرئيس الأميركي جو بايدن بالذهول من الانهيار السريع للجيش الأفغاني في مواجهة هجوم طالبان، بعد أن كانوا يتوقعون الصمود على الأقل بضعة أشهر.

ولجأ أمير الحرب السابق المارشال عبدالرشيد دستم والحاكم السابق لإقليم بلخ عطا محمد نور، وكانا من قادة قوات المقاومة المحلية لطالبان في مزار شريف، إلى أوزبكستان، منددين بخيانة الجيش الأفغاني.

وحاول عناصر من القوات الأفغانية المحرومة من الدعم الأميركي الحاسم عدة مرات الفرار إلى دول آسيا الوسطى المجاورة منذ أن شنت حركة طالبان هجومها مع بدء انسحاب القوات الأميركية وقوات حلف شمال الأطلسي من البلاد في مايو الماضي. وعبر ألف جندي أفغاني الحدود إلى طاجيكستان بعد معارك مع طالبان في شهر يوليو الماضي.

ركزت كل التقييمات الاستخباراتية الأميركية التي كانت تقدم إلى الرئيس بايدن أثناء اتخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان، على مقدار قوة الجيش الأفغاني المدرب والمسلح أميركيا، وصموده أمام تقدم طالبان. ولم تكن تأخذ في الاعتبار ضعف العقيدة القتالية والوطنية لهذا الجيش، وأنه يقاتل تحت حماية القوات الأميركية وبمجرد انسحاب هذه القوات تنتهي وظيفته.

وتتحدث كل المعلومات الأميركية عن تمتع القوات الأفغانية بمزايا الأعداد الكبيرة والقوة الجوية، إذ تمكنت من الحفاظ على طائرات مقاتلة إضافة إلى طائرات الهليكوبتر.

وفي واحدة من التقييمات التي قدمت إلى بايدن أكدت على أنه إذا أسفرت الحرب عن كارثة دموية في أفغانستان، فسوف يتم تأخير اجتياح طالبان للعاصمة كابول على الأقل.

وقدرت وكالات الاستخبارات في تقرير وضع على طاولة الرئيس في يونيو الماضي، أنه، حتى لو استعادت طالبان السلطة في بعض الأقاليم، فسيكون هناك ما لا يقل عن عام ونصف قبل أن تتعرض العاصمة كابول للتهديد.

مع ذلك لا يوجد من كان يتحدث في مركز القرار العسكري الأميركي عن العقيدة الوطنية للجيش الأفغاني، تماما مثل التهكم الذي لاحق القوات العراقية وحكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي بعد السقوط المذل للموصل بيد عصابات داعش التي لا تمتلك أيّ مقدار من تسليح القوات الحكومية العراقية وتدريبها.

لكن التقديرات الاستخباراتية الأميركية التي أخطأت في العراق مع الجيش الذي أسسته، تبين الآن أنها أخطأت الهدف نفسه وبشكل مريع في أفغانستان.

ريتشارد فونتين: من السهولة أن نعزو انهيار القوات الأفغانية إلى عدم الرغبة في القتال

ولا تنقذ هذا الخطأ التقديري الكبير تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الرافضة لأيّ مقارنة بين الوضع الراهن في كابول وسقوط سايغون عام 1975، بتأكيده أن الولايات المتحدة “حققت أهداف” الحرب في أفغانستان.

وقال بلينكن “هذه ليست سايغون. لقد دخلنا أفغانستان قبل عشرين عاما في مهمة هدفها تصفية حسابات مع من هاجمونا في الحادي عشر من سبتمبر. لقد أنجزنا هذه المهمة”.

ويجمع مراقبون على أن بلينكن عاجز عن الدفاع عن فكرة إنجاز المهمة، بمجرد مشاهدة احتفال طالبان بانتصارها بدخول كابول وهروب الرئيس الأفغاني أشرف غني وغالبية أعضاء الحكومة، وترك رجال الشرطة لمراكزهم.

وقال ديفيد بتريوس الجنرال المتقاعد الذي قاد القوات الدولية في أفغانستان من عام 2010 إلى أن تم تعيينه مديرا لوكالة المخابرات المركزية في عام 2011 “لقد وضعناهم في طريق الفشل” في إشارة إلى التخلي عن الجيش الأفغاني.

وشدد بقوله إن فريق بايدن “لم يدرك الخطر الذي يتكبده الانسحاب السريع”.

وصدقت توقعات بتريوس في قوله قبل أيام من سقوط كابول بيد طالبان، إن النتيجة كانت أن القوات الأفغانية على الأرض ستقاتل لبضعة أيام، ثم تدرك أنه لا توجد تعزيزات في الطريق، مثل هذا الأثر النفسي كان مدمرا.

لا يقلل الخبراء الأمنيون والعسكريون من تأثير العقيدة الوطنية في أعداد الجيوش كعامل يوازي التدريب والتسليح والإعداد والتخطيط والجاهزية.

القادة الأميركيون الذين أعدوا الجيش الأفغاني ودربوه لا يمكنهم إقناع أفراده بعقيدة وطنية لاختلاف الثقافة والمفاهيم في أفغانستان المسلمة. فضلا عن أن الجيوش الوطنية تؤسسها الدولة الوطنية وليس القوات المحتلة، كما حصل في العراق وأفغانستان.

وقال الخبير العسكري المصري اللواء عبدالرافع درويش إن العقيدة الوطنية للجيوش لا تنفصل عن التركيبة السياسية والمجتمعية للدول وقدرة العرقيات والأديان المختلفة على الانصهار داخل الإطار العام للدولة الوطنية، ومدى نجاح النظم السياسية الحاكمة على ترسيخ بناء مؤسسات الدولة الوطنية ودعمها والتعامل مع أيّ تهديدات تشكل خطراً على تماسكها، ومن ثم لا تكون هناك مشكلة في ترسيخ العقيدة الوطنية داخل المؤسسة العسكرية.

القادة الأميركيون الذين أعدوا الجيش الأفغاني ودربوه لا يمكنهم إقناع أفراده بعقيدة وطنية لاختلاف الثقافة والمفاهيم في أفغانستان المسلمة. فضلا عن أن الجيوش الوطنية تؤسسها الدولة الوطنية وليس القوات المحتلة، كما حصل في العراق وأفغانستان

وأضاف درويش في تصريح لـ”العرب” أن تحقيق المساواة بين الطوائف والأديان المختلفة داخل الجيوش تدعم بناء العقيدة الوطنية، لأن الجميع يدركون أن هناك هدفا واحدا يتشاركون في تحقيقه، وأن المساواة يجب أن تشعر بها كافة الرتب العسكرية، مع أهمية إحداث قدر من التقارب بين الجيوش والمواطنين ويقتنع العامة بأن الجميع يقدم تضحياته لخدمة أهداف وطنية متفق عليها.

وكانت المبالغة في تقدير نتائج 83 مليار دولار التي أنفقتها الولايات المتحدة منذ عام 2001 على تدريب قوات الأمن الأفغانية.

وأشار ريتشارد فونتين الرئيس التنفيذي لمركز أبحاث الأمن الأميركي الجديد في واشنطن، إلى انهيار دعم التعايش الذي دام عشرين عاما بين الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية التي شكلتها وبشّرت بها من خلال الانتخابات.

وكتب “أولئك الذين يسلطون الضوء على التفوق العسكري للحكومة الأفغانية، من حيث العدد والتدريب والمعدات والقوة الجوية، يفتقدون إلى النقطة الأهم والأكبر، فكل شيء يعتمد على الرغبة في القتال من أجل الحكومة. وقد اتضح أن ذلك يعتمد على وجود الولايات المتحدة ودعمها. نحن نحث الأفغان على إظهار إرادتهم السياسية عندما تعتمد إرادتهم على إرادتنا. وذهبنا نحن”.وعزا فونتين هذا الانهيار إلى عدم الرغبة في القتال من قبل القوات الأفغانية.

ويقضي الصعود الدراماتيكي من جديد لحركة طالبان، على الإيمان الراسخ وغير الرسمي للقوات المسلحة الأميركية “بعدم التخلي عن أيّ محارب” وتلك العبارة محفورة بعمق في الوعي العام العالمي، وذلك بفضل عدد لا يحصى من أفلام الحرب الأميركية التي يسلك فيها الجنود المسلك الصحيح مع رفاقهم.

لكن مثل هذا الحال لم يحدث ونحن نرى القوات الأفغانية تهرب، فيما المئات من المترجمين الأفغان الذين عملوا مع القوات الأميركية وخاطروا بحياتهم يبحثون عمّن يستقبلهم أو يحميهم.

وفي واحد من التقارير التي بثتها وكالة الصحافة الفرنسية فيما عناصر طالبان تتقدم والجيش الأفغاني ينسحب أمامها، كان عن سامي سادات قائد القوات الخاصة الأفغانية، في محاولة للإقناع بأنه مع قواته قادر على قلب المسار وهو يروّج بثقة لرسالة واضحة مفادها أن طالبان لن تمر.

كانت هذه الرسالة مشوقة، لكن للأسف هذا التشويق لم يستمر لأكثر من ساعات عندما توعد ولم يصدق وعده بعد هروب الجيش الأفغاني “كل مقاتل من طالبان يأتي سيموت أو يبقى معوقا مدى الحياة”.

قد يعكس هذا الكلام الثقة المفرطة والمبالغ فيها من قبل سادات بقواته الخاصة. لكن كلامه اليوم لم يعد في مقدمة الأخبار، مع ظهور صور المشهد المتخلف لقادة طالبان وهم يستحوذون على القصور والمعسكرات ويفترشون الأرض في التهام الطعام بينما بقيت الكراسي جوارهم فارغة.

العرب