تتميز تونس بالتنوع الثقافي نظرا إلى تعدد روافدها الحضارية، ورغم ذلك فإن هناك من يحاول حصر الثقافة التونسية في بعدها العربي، فيما ينادي آخرون بضرورة الانخراط في البعد الغربي وتحديدا الفرانكوفوني، بينما نجد دعوات وسطية تحاول أن ترسخ تونس في بعدها الأفريقي والعربي والمتوسطي أيضا.
تونس أو “إفريقيّة”، حسب التسمية القديمة، والتي أعطت اسمها لقارة بأكملها، لم تنس أو تدر ظهرها يوما لجنوب حدودها وعمق امتداد جذورها السمراء في المحيط الأفريقي على الصعيد الثقافي منذ دولة الاستقلال التي حرص زعيمها الحبيب بورقيبة على إعطائها هذا البعد القاري لأكثر من سبب جغرافي وسياسي.
تفاوتت الأمزجة والأهواء في كل مرة وفق المصالح الإقليمية والسياسية، لكن الملمح الأفريقي للثقافة التونسية لم يُمح أو يُغيّب تماما عن هذه الهوية المتنوعة، على الرغم من سطوة حضور الثقافتين العربية والأوروبية.
الوجهة البكر
بعض العروبيين من المشرفين على الثقافة التونسية في دوائر الدولة عمدوا إلى تهميش البعد الأفريقي للثقافة التونسية بدوافع التعصب والتعالي المتمحور حول المركزية المشرقية، وكذلك فعل الفرانكوفونيون في انحيازهم إلى الجهات الأوروبية الداعمة والممولة للمشاريع الثقافية في تونس.
لكن قسما كبيرا من المسيرين للفعاليات الفنية والثقافية ركز على البعد الأفريقي والتفت إلى هذا العمق القاري الذي من شأنه أن يكسب تونس ريادة ثقافية في القارة السمراء ويجعلها منارة ومركز استقطاب وسط تنافس ظاهر من طرف بلدان وازنة عربيا مثل مصر والمغرب والجزائر، وأفريقيا في جنوب الصحراء مثل جنوب أفريقيا والسنغال ونيجيريا.
وساعد هذا التوجه على الانخراط في المنظومة الأفريقية التي كان الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة واحدا من مؤسسيها البارزين، وانبرى جمع من رجالات الثقافة في تونس إلى التركيز على هذه الوجهة البكر، خصوصا أن غالبيتهم ينتمون إلى مدارس فرانكوفونية مشتركة، وجمعتهم الدراسة في فرنسا مع وجوه ثقافية أفريقية تشترك معهم في التطلع إلى مستقبل سياسي تكون فيه التنمية الثقافية واحدة من أبرز مكوناته.
البعد الأفريقي في الثقافة التونسية ليس جديدا على بلد احتضن المئات من الندوات والملتقيات المتعلقة بهذا الشأن
ولعل من أبز هؤلاء مؤسس مهرجان قرطاج السينمائي الطاهر شريعة الذي أسس بالتزامن مهرجانات في أفريقيا، وأشرف على قسم السينما في وكالة التعاون الفني والتقني التي أصبحت تعرف بالمنظمة الدولية للفرانكوفونية حيث ساهم في بعث مهرجان السينما الأفريقية بواغادوغو في بوركينا فاسو سنة 1971 ومهرجان مقديشو بالصومال.
ولم يكن شريعة وحده بل معه أسماء تونسية كثيرة تركت بصمتها في مد جسور التواصل الثقافي مع القارة السمراء في مجالات المسرح والرقص والفنون التشكيلية والدراسات الفكرية والاستراتيجية.
وتتابعت الأجيال دون أن تنسى البعد الأفريقي للحركة الثقافية مثل المركز العربي الأفريقي للتكوين المسرحي الذي أسسه الراحل عزالدين قنون في فضاء الحمراء بالعاصمة تونس. واستطاع قنون في هذه التجربة المميزة أن يجمع مسرحيين شبانا من العالمين العربي والأفريقي في ورشات عمل مشتركة أنتجت أعمالا مهمة، وركزت على هموم الجيل الجديد في الطرفين.
وكذلك فعل فنانون تونسيون في مجالات التعبير الحركي مثل سهام بلخوجة ونوال إسكندراني وإيمان السماوي ونجيب بن خلف الله. وفي الأفلام الروائية القصيرة والطويلة وجدت أعمال مهمة رغم قلتها مثل شريط “قوايل الرمان” للمخرج محمود بن محمود، ويتناول فيه الجذور الأفريقية لزنوج تونس من خلال موسيقى “السطمبالي” التي تنشط في تونس ولها جمهور واسع.
وتمحورت فكرة الفيلم الذي ساهم البلجيكيون في إنتاجه حول البحث عن جذور القصة الشعبية المسماة “بوسعدية” القادمة من أيام تجارة الرق التي ألغتها تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر قبل الولايات المتحدة وغيرها من البلدان المتطورة.
وبرزت في الفترة الأخيرة بتونس أعمال ونشاطات كثيرة تحتفي بالثقافة الأفريقية ضمن تظاهرات موسيقية أخذت شهرة في مهرجانات عالمية على غرار تجربة الفنان منير الطرودي الذي مزج الجاز بالتراث الغنائي البدوي في تونس، وشاركه فنانون أفارقة في أعمال مشتركة.
التفتت تونس بقوة إلى تراثها الأفريقي في السنوات الأخيرة أسوة بالمغرب في موسيقى “القناوة” الشهيرة وفولكلور جنوب الصحراء، وكذلك فعلت مصر في انفتاحها على موسيقى النوبة وجنوب نهر النيل.
هذا البعد الأفريقي في الثقافة التونسية ليس جديدا على بلد احتضن المئات من الندوات والملتقيات المتعلقة بهذا الشأن كأرض لحوارات الحضارات والثقافات. ولعل آخر النشاطات كانت تظاهرة “أفريقيا المبدعة” التي هي بمثابة شبكة فنية ترتكز على بناء رؤى فنية متنوعة لبناء وتجذير الفعل الثقافي، حسب تعبير مديرة مركز القناع الثقافي رحاب غرس.
وانطلق التفكير في هذا المشروع بعد القيام بجولة فنية في دولة جيبوتي أفرزت اتفاقية شراكة بين المركز الثقافي القناع بمدينة المحرس التونسية وجمعية “أرهوتابا” من دولة جيبوتي لتتشكل بعدها مجموعة من الشراكات مع جمعيات وفرق وباحثين وفنانين من القارة الأفريقية.
وقالت صاحبة هذه المبادرة لوسائل إعلام محلية “نريد أن نشير من خلال هذا المشروع إلى محاولة خلق حركية فنية إبداعية تنطلق من القارة الأفريقية وتشارك بقية الأقطار من العالم عبر تبادل الأفكار والتجارب والخبرات بين جل الأشكال التعبيرية المقترحة من خلال الفنانين والمثقفين والتقنيين المشاركين”. وشمل هذا المشروع الثقافي دولا أفريقية وعربية من داخل القارة الأفريقية هي جيبوتي والسودان والصومال والمغرب وإثيوبيا، خمس دول تتشارك في الكثير من الخصائص الفنية التي في عمل على إبرازها الفنانون المؤمنون بانعدام الحدود أمام الأفكار
الحقيقية.
وعبرت صاحبة المشروع عن هذه المبادرة بقولها “أفريقيا المبدعة حلم تونسي أفريقي، حلم جمع شبابا يقاوم لأجل ترسيخ الثقافة البديلة ونشر الفنون بين كل فئات المجتمع، هي فكرة للوحدة ومشروع لتقديم أجمل الإبداعات التونسية في روحها الأفريقية”.
البعد القاري للثقافة التونسية من شأنه أن يجعلها أغنى وأكثر انفتاحا وتنوعا دون التقوقع حول نظرة أحادية سواء كانت محلية ضيقة أو عروبية، ولا تخلو من اجترار نفس المقولات.
العرب