كان أول من استخدم مصطلح النوستالجيا هو الباحث يوهانز هوفر السويسرى فى رسالته عام 1688، حيث لاحظ أن الجنود السويسريين الذين يحاربون فى فرنسا وإيطاليا يعانون من الحنين إلى الوطن. وعليه، فقد ركب الكلمة معتمدا على المقطعين الأصليين فى أصل الكلمة اليونانى: نوستوس وتعنى العودة إلى الوطن (استخدمها الشاعر هوميروس بكثرة فى ملحمة الإلياذة) وألجوس وتعنى الألم. وظل مصطلح النوستالجيا حتى عام 1850 دالا على مرض، حتى إن الأطباء كانوا يبحثون عن موضع النوستالجيا فى الجسد. ومع بداية العصر الحديث اكتسب مصطلح النوستالجيا دلالات نفسية مرتبطة بالحنين إلى الموطن الأصلى (وقد ظهرت هذه الأعراض على جنود الحرب العالمية الأولى والثانية)، ثم انسحب الأمر بعد ذلك على الشعور بالفقد، والحنين إلى ماض ذهب ولم يعد، و الحنين إلى زمن الطفولة (ظهر ذلك مع الشعراء الرومانسيين)، والحنين إلى شخص غيَّبه الموت أو الفراق، والحنين إلى وطن سلبه الاحتلال أو الدمار، الحنين إلى كل ما كانت الذات تألفه وتشعر فيه بالأمان.
فى عصر ما بعد- بعد الحداثة، فى عصر تختفى فيه الأمكنة التى عرفناها، وتتغير اللغة التى تعلمناها، فى عصر نشاهد فيه شخصا يحترق داخل قفص، ونساء يُغتصبن على الهواء، ورءوس مُعلقة على المشانق، فى عصر تتغير فيه تماما الخريطة التى كنا نتعلم رسمها فى المدرسة، فى عصر تتحول فيه مقولة “حار جاف صيفا، دافئ ممطر شتاء” إلى نكتة، فى عصر أصبحنا نشاهد فيه الأسلحة فى الواقع بعد أن كنا نشاهدها فى الأفلام، فى عصر نكتشف فيه هشاشة أنظمة كنا نؤمن بمناعتها، فى عصر نحجز فيه تذاكر للقمر بدلا من باريس، فى عصر يضع فيه كل شخص وجهه فى شاشة صغيرة للتليفون المحمول، بدلا من أن يتودد إليك، فى عصر نسير فيه ونحن نحمل العالم فى جيوبنا لنتابع أحدث المصائب، فى عصر مثل هذا، لابد أن نعترف أن العالم الذى عرفناه قد تغير تماما. لم تعد النظرة المعرفية التى عشنا فى ظلالها تُجدى مع عالم مثل هذا، حيث العلاقة الوثيقة بين الإنسان والمكان بكل دلالاته مهددة بالزوال فى أى لحظة. لكل ذلك لا تفارقنا حالة النوستالجيا والحنين الذى يصل إلى حد الألم والوجع، حزنا على ماضٍ ولى وذهب. إلا أن الماضى ليس كله جميلا أو محمودا، ولذلك يراودنا الحنين إلى ما يُشعرنا بالأمان، بالاستقرار، بالآدمية، إلى تلك اللحظة التى كان فيها الشعور متسقاً مع الإدراك، أى أعلى لحظة تواصل بين الوعى والعالم. بوقوع شرخ بين الوعى والعالم يزداد الشعور بالحنين، وهى مراوغة من الذات من أجل الالتفاف على واقع مرفوض، غير مفهوم، واقع غريب لا يدركه الوعى ولا يُمنطقه الفكر.
وكأن النوستالجيا والحنين هى محاولة اتساق مع ذاكرة، أو هى محاولة المقاومة بالذاكرة، فعندما تنعدم كل السبل تبقى الذاكرة هى الوسيلة الوحيدة للتعامل مع واقع مهترئ ومتشظ، مما قد يسهم فى فتح أفق مستقبلى ويحافظ على ماضٍ “طوباوى” يسمح للوعى باختراق جدار العتمة المعرفية. الذاكرة هى وسيلة رأب صدع النفس المثقلة بالحنين، التى ترزح تحت ثقل الفقد، الذات الغريبة عن لحظتها الحاضرة، التائهة فى عالم لا تعرف طرقاته، الساعية إلى استرداد العالم الذى تعرفه وتتقن مفرداته. وفى لحظة قريبة تبدو بعيدة، اللحظة التى سبقت عام 2010، كنا نعتقد أن الفلسطينى هو الذى اضطر لمغادرة وطنه، نفيا أو طردا من قبل عدو محتل أو هجرة بحثا عن حياة آدمية، أو لجوءا هربا من الرصاص، ثم التحق به اللبنانى بسبب حرب أهلية فى منتهى القسوة، ومن ثم انضم العراقى إلى الصورة، هربا من معتقلات تعذيب وكرم فائض فى التصفيات الجسدية، ولم يلبث السودانى أن سارع باللجوء والهرب من معتقلات “الأشباح”. مع اندلاع الثورات العربية انضم إلى المشهد النوستالجى ليبيا واليمن، وإن كانت سوريا تحتل صدارة المشهد بلا منازع. هجرة كانت أو نفى أو لجوء أو اغتراب فى المكان، الكل يتساوى فى مأساة الحنين إلى الوطن: البيت والأهل والأحباب، الروائح والطعام والموسيقى، اللغة والمسجد والكنيسة، ولا يتبقى لكل هؤلاء سوى الذاكرة التى تستعيد المفقود والضائع.
الذاكرة هى الحل الوحيد لمواجهة أوطان لم نعد نعرفها ولا تعرفنا. تنسحب النوستالجيا أيضا على كل من لم يعد يفهم وطنه، حين يصبح الوطن مرادفا للغربة، بل ربما يكون هذا أشد إيلاما ووجعا: “وكل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها. وللمنافى رائحة مشتركة هى رائحة الحنين إلى ما عداها… رائحة تتذكر رائحة أخرى. رائحة متقطعة الأنفاس، عاطفيّة تقودك كخارطة سياحية كثيرة الاستعمال إلى رائحة المكان الأول. الرائحة ذاكرةٌ وغروب شمس. والغروب هنا توبيخ الجمال للغريب” (محمود درويش، فى حضرة الغياب).
لم يتغير فقط العالم الذى نعرفه، بل تحول إلى عالم صغير مكثف فى الحاسوب، وأصبحت حياتنا كلها مرقمنة، ويُمكن بكبسة زر استعادة كل الماضى ليكون حاضرا فى المركز بنفس القوة، وكأن الزمن لم يمر. من هنا لم تعد الذاكرة تعتمد على موهبة ما أو مجهود فردى متميز، فالحاسوب يفكر لنا ويحفظ لنا كل ما نود الاحتفاظ به. كان من الطبيعى فى هذا السياق أن تحتل الصورة مركز الكلمة، لتكون أبلغ وسيلة تعبير، قادرة على توصيل رسالة وإحياء ذكرى، والتأشير عليها. وقد ظهرت أهمية الصورة منذ عقود فى المجال الصحفى كوسيلة توثيق وإثبات، إلا أن الثورات العربية حولت الصورة إلى أداة للتعبير عن النوستالجيا للحظة يوتوبيا خاطفة، لحظة واعدة بالكثير، لحظة لم يستطع الوعى تجاوزها حتى الآن. كانت الثمانية عشر يوما فى ميدان التحرير بقلب القاهرة عام 2011 كافية لأن تتشكل يوتوبيا كاملة على مستوى الخطاب السياسى وعلاقات الجندر والدين والطبقة. وكأن تنظيف الميدان صباح 12 فبراير 2011 كان مجازا عن محو كل ما سبق، نفض الحلم وانتهاء المشهد. سيطرت النوستالجيا نحو تلك الفترة على جيل كامل، تشكل وعيه فى المشهد المثالى، وفقد أعز أصدقائه أمام عينيه. فكانت الصورة التى تسجل اللحظة وتوثق التلاحم هى الوسيلة لتعويض هذا الحنين الموجع. توالى ظهور ألبومات الصور المطبوعة، وانتشرت آلاف الصور على الفيس بوك والمدونات. اعتمدت الصور على تمجيد العادى واليومى فى حياة الميدان، وتحولت إلى أيقونات تعمل على الحفاظ على الذاكرة، وفى سياقات أخرى تُستخدم كوسيلة لإظهار الحنين لمشهد لم ولن يتكرر. بالمقابل، ظهرت صور الشهداء التى تظهر فى سياقات متعددة: احتجاج، تأبين، ذكرى، والأهم إحياء الذاكرة لمواجهة الشعور بالفقد. تبدو الحالة المصرية نموذجا كاملا يشرح الكيفية التى يتم بها توظيف الصورة للتعبير عن الحنين لماضى مرتكز على أشخاص أو أحداث أو أماكن. وقد تصاعدت مؤخرا حالة الأرشفة لصور أبيض وأسود تصور شوارع القاهرة فى القرن الماضٍ وملابس النساء، وانتشرت كثيرا على جميع مواقع التواصل الاجتماعى. لا يمكن إغفال الصور التليفزيونية التى تصور مقاطع كثيرة من مشهد الثمانية عشر يوما، أو الخطاب الشهير لجمال عبد الناصر الذى أعلن فيه تأميم قناة السويس. وعلى اختلاف أنواع الصور، هناك التأكيد المبطن على الحنين إلى لحظة انتصار، لحظة تحقق حلم، لحظة التكامل بين الوعى والعالم. وهو نفس ما تفعله بنا الصور الشخصية، تلك الصور التى تمنحنا شعورا بالاستمرارية، وتُسهل لنا بناء تراكم نفسى ومعرفى تجاه ذواتنا.
بنفس المنطق تمنحنا الموسيقى والغناء تعويضا عن حقبة ثقافية ذهبت إلى الأبد، فالاستماع مثلا إلى سيدة الغناء العربى أم كلثوم، أو إلى عبد الحليم حافظ وعبد الوهاب يعنى استرجاع شعور فنى لم يعد متوافرا فى الحاضر. كما أن مشاهدة، مثلا، أم كلثوم وهى تغنى غالبا ما يثير الكثير من الحنين لزمن مختلف كليا. إلا أن أهمية هذه الأشكال المتعددة للفنون أنها تعمل على بناء ذاكرة ثقافية جمعية، بحيث تضع المجتمع بأكمله فى حالة حنين. وهو نفس الشعور الذى يراود هواة الأفلام القديمة. لم يغفل السوق الاستهلاكى هذا الشعور بالحنين، فاندفعت الإعلانات التجارية إلى توظيف الشعور بالنوستالجيا من أجل إضفاء قيمة على المنتج الذى يتم الترويج له، وبهذا يكتسب المنتج تاريخا خاصا به، ويترسخ فى وعى المشاهد أنه جزء أصيل من الذاكرة الجمعية. وقد ظهر ذلك، على سبيل المثال، فى إعلان عن مشروب بيبسى عنوانه “هنكمل لمتنا”، والإشارة إلى الاكتمال هنا ذات دلالة، خاصة أن الأغنية المصاحبة تقول: “جئنا لكم من اللى فات، نفكركم بأحلى الذكريات”. اعتمد الإعلان على توظيف مشاهد تجمع الراحلة صباح وأحمد مظهر، وجورج سيدهم وثلاثى أضواء المسرح، وهنيدى، وأخيرا تلك اللقطة التى آلمت الكثيرين، وهى التقاء نظرات الراحل أحمد زكى وابنه هيثم.
مع تحول بعض الثورات العربية إلى خريف قاس وموجع، تعاظمت موجة الهجرة من البلدان العربية. وهو ليس بالفعل السهل، فالهجرة تعنى ببساطة أن يترك الشخص خلفه الوطن بكل تفاصيله ليبدأ حياة جديدة (ليست بالضرورة سعيدة) فى مكان آخر مجهول بالنسبة له، وكأن وعيه ينخلع من المكان بقسوة وبدون أى مقدمات. تضع الهجرة المهاجر والمنفى فى مواجهة قاسية مع ذاته، وهى المواجهة التى تفسح مكانا لذاكرة ثرية، ممزوجة بتساؤلات قاسية، لا تخلو أحيانا من رثاء الذات. إنه الفقد بكل ما تحمله الكلمة من معان، فقد الوطن الذى لا يمكن استرجاعه أو على الأقل جزء منه إلا بحكى وكتابة سيرته. من هنا أصبح لدى المكتبة العربية رصيدا جيدا من أدب المنفى، ذاك الأدب الذى يحكى سيرة وطن بعدة أشكال. فهناك الكاتب الذى يرصد التحولات السياسية الكبرى، وهناك من يسلط الضوء على تجربة بعينها، كتجربة المعتقل على سبيل المثال، وهناك من يمزج بين الاثنين، وهناك من يحكى صيرورة حياة الفرد لتتحول تفاصيل هذا المسار إلى سيرة وطن، أى أن هذا الأدب يسعى دائما إلى إعادة تشييد الوطن بالسرد حتى وهو “خارج المكان” كما أطلق الراحل ادوارد سعيد على سيرته الذاتية. بشكل عام، أصبح أدب المنفى هو الطريق لإعادة بناء وطن مفقود، ووسيلة للحفاظ على التراث، وتوثيق التاريخ (سواء الشخصى أو العام)، والأهم أنه السبيل لمواجهة غربة قاحلة تؤدى إلى شرخ لا يلتئم فى الوعى بالعالم.
قد تكون رواية “طشارى” للكاتبة العراقية إنعام كجى جى نموذجا شارحا لما يفعله الأدب القائم على النوستالجيا. وكلمة طشارى تعنى الرصاصة التى تخرج وتتشظى فى جميع الاتجاهات، حال المهاجر العربى فى كل مكان، وحال الأسرة التى تنتمى إليها الطبيبة «وردية» اسكندر بطلة الرواية، وهى مسيحية كلدانية من الموصل. موجعة هى رواية “طشارى” لأنها تستعيد مجد وازدهار وطن انقلب على أبنائه، فمسيرة الدكتورة وردية – طبيبة أمراض النساء- منذ الخمسينيات تؤكد أنه كان هناك عراقا مزدهر، لا يعرف الطائفية، عراق يحترم النساء ويؤمن بالعلم، عراقا ضاع مع أنهار الدم واكتساح مشاعر الطائفية. وفى رحلة كتابة عكسية تستعيد «وردية» العراق كوطن، بعد وصولها إلى باريس كمهاجرة. تبدو براعة الكاتبة فى أنها استعادت لنا جزء غير متداول من سيرة العراق، كما أنها فعلت ذلك عبر المدخل الشخصى الذى لا يُركز على المسار السياسى، بل يُعبر عنه من خلال إشارات زمنية، فتقول، مثلا، أن الحدث تزامن مع “تهجير اليهود”، أو أن كلمة “عفلقى” نسبة إلى ميشيل عفلق، أى بعثى) كانت تشير إلى فئة بعينها.
فى معظم الأعمال الأدبية والفنية التى تُوثق الذاكرة، وتسجل لحظة الاكتمال التى تحن إليها الذات، يتمكن الوعى من إعادة صياغة علاقته بالعالم الخارجى فى المكان الغريب، بالرغم من عدم التئام الشرخ تماما. إلا أن “إعادة” الصياغة تتيح قراءة جديدة للواقع، وهو ما يساعد الهوية على استعادة بعض التوازن المفقود، فتكون النوستالجيا هى السبيل الوحيد لعدم السقوط فى فخ الهويات القاتلة.
د.شيرين أبو النجا
مجلة الديمقراطية