الثورات والديموقراطية: من الاستثناء إلى الاستعصاء

الثورات والديموقراطية: من الاستثناء إلى الاستعصاء

يصعب عادة أن يرى المرء شعاع نور حين يكون الظلام حالكاً. وهذه هي الحال بعد ست سنوات على بداية الربيع العربي الذي لا يرى كثيرون من تداعياته إلا تدهوراً بأشكال مختلفة ودرجات متباينة في معظم بلدانه أو كلها.

من الصعب مثلاً أن يظهر أثر إيجابي لثورات انقض عليها خصومها بسرعة، فيما وسائل الإعلام والكاميرات تنقل كل يوم أسوأ الأنباء وأفظع الصور. ويزداد الأمر صعوبة حين يكون الأثر الإيجابي الأساسي مُعطّلاً بفعل كوابح تؤجل ظهوره إلى أجل غير معلوم.

لقد كسر الربيع العربي حاجز الخوف من السلطة لدى قطاعات واسعة من شعوب اكتشفت كم كانت هشةً هذه السلطة التي تهاوت في خمسة بلدان، فسقط رؤوس أربعة منها، وسلَّم الخامس أمره لاحتلال أجنبي مزدوج لحمايته.

ويُمثل كسر حاجز الخوف من السلطة تحولاً لا يُستهان به في بلدان عاشت شعوبها حالة استسلام لـ «قدر» استبداد وظلم وفساد بلا حدود. لكن تنامي أخطار الإرهاب والحرب الأهلية خلق خوفاً آخر، قد يكون أشد وطأة، وأتاح فرصاً لتخويف من لم تعد السلطة تُفزعهم.

وعلى رغم أن هذا الخوف الجديد يُضعف الطلب على الديموقراطية، ويزيده على الأمن، فهذه حالة موقتة طال وقتها أو قصر. فقد حمل انكسار حاجز الخوف من السلطة في طياته معاني أهمها وضع حد لحالة الاستثناء العربي، لكن من دون أن يؤدي إلى توافر مقومات الديموقراطية. فلم يكن الخوف من السلطة العامل الوحيد الذي استدعى صك مفهوم «الاستثناء» في بعض الأدبيات الديموقراطية تعبيراً عن الحالة العربية. لذلك صار علينا الإقرار بوجود مشكلة حقيقية لدى العرب في شأن المسألة الديموقراطية، وبأنها تعود إلى جمود مجتمعاتنا، وهشاشة ثقافة الحرية لدينا، وليس إلى طغيان معظم نظم الحكم وتجبرها فقط.

والحال أن العلاقات المجتمعية في بلداننا ظلت محكومة بنزعة محافظة يتفاوت جمودها باختلاف المناطق الجغرافية والشرائح الاجتماعية. وإذا استثنينا فئات محدودة للغاية من هذا الجمود، نجد أن النزعة المحافظة في المجتمع تعوق توافر الحد الأدنى من ثقافة الحرية.

هذه النزعة الغالبة هي المصدر الأساسي الذي تنهل منه جماعات دينية تعوق ممارساتها، كما توجهاتها، التطور الديموقراطي. وليس ما حدث في بداية الربيع العربي، وبخاصة عقب الثورتين التونسية والمصرية، إلا مثالاً واحداً، لكنه ساطع، على ذلك. وتجد هذه الجماعات في البيئة المجتمعية الجامدة حاضنة مناسبة ما زالت مستمرة لغياب الإرادة السياسية اللازمة لتحديثها، حيث تعتقد نظم حكم مستبدة أن بقاءها على هذه الحال يجعل الهيمنة على المجتمع أسهل. لذلك يظل نصيب الفرد لدينا من الحرية في حياته الخاصة وعلاقاته الاجتماعية أقل مما يلزم لانتشار ثقافة ديموقراطية في المجال العام.

غير أنه في الوقت الذي ينبغي الإقرار بذلك كله لا يصح إغفال أن الربيع العربي، الذي لم يُقدَّر له بعد أن يُزهر، أحدث أثراً ما. فقد توسع الاهتمام بالشأن العام، ولم يعد مقصوراً على دوائر نخبوية محدودة. وهذا جزء من تحول يستغرق وقتاً يتفاوت من بلد إلى آخر، لكنه لن يكون قصيراً في أفضل الأحوال لأنه بدأ في مرحلة ارتداد ديموقراطي على المستوى الدولي، بعد ثلاث موجات من التقدم تعاقبت منذ السبعينات.

ومع ذلك، لم يعد الوضع مثلما كان عندما صُك مفهوم الاستثناء العربي، على رغم أن البناء على الأثر الإيجابي الذي أحدثه الربيع العربي ما زال مستعصياً. لكن الاستعصاء يختلف عن الاستثناء. فالمُستثنى من قاعدة ما يختلف عمن يستعصى عليه أن يكون جزءاً منها. الأول محكوم بأن يبقى خارج القاعدة، فيما الثاني يواجه صعوبات في الالتحاق بمن تنطبق عليهم. كما يرتبط الاستعصاء في كثير من حالاته بفشل يواجه من يستعصى عليه أن يحقق هدفاً يسعى إليه. أما المستثنى فهو لا يفشل لأنه لا يدخل أصلاً في تجربة يتعذر عليه أن ينجح فيها.

وفي الانتقال من الاستثناء إلى الاستعصاء ما يتيح مقارنة حال بلدان عربية مع أخرى في العالم اليوم. وهذه المقارنة ليست واردة في حال الاستثناء. في الإمكان اليوم مقارنة استعصاء الديموقراطية في بلدان عربية عدة ببعض دول شرق أوروبا ووسطها التي ساد اعتقاد عند خروجها من وراء الستار الحديدي بأن التطور الديموقراطي فيها سيكون سهلاً وسريعاً. وها هي نصف هذه الدول أو ما يقرب تعاني استعصاء ديموقراطياً، ويشهد بعضها مداً شعبوياً، بعد نحو ربع قرن. وبلغ هذا الاستعصاء ذروته في هنغاريا وبلغاريا وبولندا.

وحتى في أميركا اللاتينية، التي كانت تحولاتها الديموقراطية في التسعينات أحد عوامل ظهور مفهوم الاستثناء العربي، تتعثر هذه المحاولات الآن بأشكال مختلفة في عدد متزايد من بلدانها. وعلى رغم الفرق بين الوضع في البرازيل وفنزويلا، لجأ كل من الرئيسة المعزولة بموجب تحقيق برلماني شفّاف، ديلما روسيف، والرئيس المتشبث بالسلطة مادورو، إلى خطاب المؤامرة الشائع عربياً في معركتهما ضد الخصوم السياسيين.

ومع ذلك يظل العرب في مستوى أدنى من حيث فرص التطور الديموقراطي لأن عوائقه في بلدانهم أعمق منها في أميركا اللاتينية وشرق أوروبا، سواء من حيث ثقافتهم الضعيفة الصلة بالعصر الحديث، أو أنماط مجتمعاتهم الجامدة، أو هياكل «دولهم» التي أُقيمت على مقاس التسلط والاستبداد. لكنهم لم يعودوا، على رغم هذا كله، استثناءً كاملاً من التطور الديموقراطي بنجاحاته وإخفاقاته في العالم. فقد أصبح هناك ضوء في آخر نفق قد يكون طويلاً، لكنه ليس بلا نهاية.

أما المقارنة مع أوروبا في القرن التاسع عشر فهي ليست منطقية. ومع ذلك لا ننسى أن عدداً كبيراً من بلدانها وإماراتها بدت في حالة استعصاء ديموقراطي بُعيد ثورات 1848 التي غمرت القارة من بولندا وصربيا شرقاً إلى إسبانيا غرباً.

والقاسم المشترك هنا على رغم كل أوجه الاختلاف أن التاريخ يبلغ في لحظة معينة منعطفاً، لكنه لا ينعطف، وأن هذا الانعطاف يستغرق وقتاً يتفاوت من حالة إلى أخرى. والأكيد أنه سيكون أطول في منطقتنا البائسة على رغم أنها تجاوزت حالة الاستثناء.

وحيد عبدالمجيد

صحيفة الحياة اللندنية