تصطدم حركة تنظير العقل العربي اليوم بقضية بالغة الأهمية في إطار إعادة بناء مفاهيم الكفاح الفكري والسياسي لتحقيق هدف متفق عليه في مسيرة العقل العربي قبل استقلال الأقطار العربية النسبي وبعده، وهي الزحف نحو الدولة الرشيدة.
والدولة الرشيدة هي التي توصف بدولة الحقوق والحريات، أو دولة العدالة الدستورية، أو العدالة الاجتماعية، أو أي مصطلح يتفق مع حلم الدولة العادلة التي تُزيح الاستبداد، وتسمح للرأي السياسي والفكري بالتعبير عن ذاته، وتضمن قواعد قانونية ودستورية لحقوق الفرد ومساواته أمام القانون المنصف، وتحقيق الرفاه الاقتصادي له.
هذه المنظومة من التطلعات المشتركة التي تجمع بين التيارات الفكرية العربية إلى حد كبير هي مجمل حلم الرأي العام العربي بما فيه حزب الكنبة على الأقل وفقا للأدبيات التي سادت لعقود وازدهرت مع أجواء الربيع العربي، قبل عملية نقضه الدامي من الداخل والخارج.
“الدولة الرشيدة هي دولة الحقوق والحريات، أو دولة العدالة الدستورية، أو أي مصطلح يحقق حلم الدولة العادلة التي تُزيح الاستبداد، وتسمح بحرية التعبير، وتضمن قواعد قانونية ودستورية لحقوق الفرد ومساواته أمام القانون، وتحقيق الرفاه الاقتصادي له”
ويرتكز التفكير غالبا على أن الحرية هي المسار الأول لتحقيق هدف الكفاح، وأن الدولة في منظومة التفكير كانت دولة استبداد وليست دولة شعب ولا دولة وطن الإنسان، وبالتالي فإن مخاوف التفتت من الكفاح المسلح أو العنف الثوري، لم تصل في حينها إلى الوقوف على النماذج الحالية، كوضع سوريا أو ليبيا أو اليمن أو شفا جرف هار كمصر.
فنموذج تونس الذي أُنقِذ بشق الأنفس للحفاظ على جذور الربيع العربي دون مواجهة دامية لم يتكرر، وهو يتعرض لضغوطات مختلفة، مما يفرض إعادة تقييم للفكرة في العقل العربي، ليس في تحقيق حلم الدولة الرشيدة، ولكن في أي مسلك تتجه إليه.
كما أن معادلة دحرجة الإصلاح أو تحقيق اختراق في نظم الاستبداد، لم تتم أبدا بدون تكلفة وتضحيات، لكن السؤال هو ماذا بعد التضحيات، هل هو سقوط دولة الاستبداد، أم سقوط دولة الجغرافيا والإنسان العربي، وهو ما يفتح أبواب الجحيم على مصاريعها، ثم تتحول المهمة إلى البحث عن مخرج يوقف القتل ويُبقي دولة الجغرافيا التاريخية للإنسان العربي، ليؤسس عليها إطلاق الحلم من جديد، وليس تعزيز أو تدشين حركة الكفاح الثقافي والسياسي لصناعة الدولة الرشيدة الوليدة.
وليست مهمة هذا المقال تصنيف كل التجارب وأين تقف من هذا المعيار، فضلا عن تقييمها، وإنما الوقوف عند السؤال المحوري، أين الطريق الأسلم إنسانيا ونضاليا لعودة الحلم الذي يمكن للإنسان العربي تحقيقه، كما حققه شركاء في هذه الأرض.
إن نموذج التحديات التي واجهت الإنساني العربي كانت من التعقيد والفظاعة بمكان، فقرار القوى الدولية ترك معادلة توحش النظام تفتك بالثورة وتوظف الأقليات في حرب اندفعت بين فكرة انتحار الأقلية أو نجاحها في تصفية الأغلبية للحد المطلوب، هذا التوحش سبق توحش داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) وغزو الغلو البربري للجماعات الدينية المخالفة نهجا وأصلا لمفاهيم الإسلام، والحديث هنا عن النموذج السوري.
أما في النموذج المصري فقد تُركت الآلة العسكرية حتى الساعة تدمر البناء الديمقراطي الذي بناه المناضل المدني المصري خلال الفترات الماضية، وذلك عبر استئصال أمني وعسكري واسع، برضى غربي وتأييد ضمني، وتدخل مالي خليجي ضخم تمكن من تغيير المعادلة بالفعل، هذا في تأثيرات الخارج.
أما الداخل فإن مستوى الصراع الفكري بين التيارات العربية الإسلامية والعلمانية، وحتى في داخل كل منها، لم يحقق أدنى درجات التفاهم سواء في مصر أو في ليبيا، وإن كان قد حقق ذلك بنسبة كبيرة في اليمن، لكن اللعبة الإقليمية كانت أكبر قدرة منه، فتناوبت على إسقاطه بذراع محلي.
وهنا نصل إلى تحرير مصطلح مهم ربما يعتمد على إرث إنساني في التاريخ الإسلامي، وفي تاريخ الحركة اليسارية وهو مصطلح العنف الثوري، الذي استخدم كثيرا في تاريخ وأدبيات الحركات اليسارية قبل وبعد الوصول إلى الحكم، وهو قريب من مصطلح الكفاح المسلح الذي استخدم في التاريخ الإسلامي لعزل الظالم المستبد، وكان يهدف إلى مواجهة ظلم السلاطين وتمكين من هو أحق منهم -حسب تقدير العلماء الثوار.
“إن تقدير حسابات التقدم نحو العنف الثوري المدني لا تنطلق من مشروعية وحجم مظالم الشعب، وإنما من تقييم الموقف واستشراف النتائج، واستكمال متطلبات ما قبل العنف الثوري المدني، لتأمين الشعب من حرب أهلية أو جحيم فوق طاقته، أو حروب تصب عليه من كل ناحية لوأد ربيعه في ليلة عرسه”
ورغم ثبوت الأمر تاريخيا، فإن الخلاصة التي انتهى إليها الفقه الشرعي تتحفظ على الكفاح المسلح لاقترانه بسفك وإراقة الدماء، ولكن البديل التاريخي كان أسوء، كما جري في دولة بني العباس التي قامت بعد حكم بني أمية، وارتكبت مجازر ضدهم وضد معارضيها.
أما العنف الثوري في فكر اليسار فهو أداة اضطرارية، لمواجهة القمع المستفحل من المستبد، بغض النظر عن عدالة الأيديولوجية اليسارية المواجهة له، المهم أنه محاولة لصناعة توازن رعب أمام ذلك الاستبداد، أما الوجه الآخر كما احتضنته أميركا اللاتينية، فتمثل حركات مسلحة واسعة، وصلت إلى خنق الحكومات اليمينية الموالية لواشنطن، وإقامة أنظمة بديلة لصالح اليسار الديمقراطي.
وفي الواقع فإن حالة الربيع العربي لم تتخذ ابتداء مسار عنف ثوري، ولكن تطورت الأمور قهرا حتى بات من ممكن أن يصنف الدفع المدني الحاشد لإسقاط النظام عبر مظاهرات قوية ومتتالية، وتحييد قوات القمع بكفاح نوعي ومعبر عن مصطلح العنف الثوري المدني، محاولة لتقريب الفكرة من الواقع، وهذا طبعا قبل انتقال الوضع إلى مواجهة مسلحة شاملة.
وهنا يفتح الباب لعصف ذهني وحوار ضروري للغاية، لتقييم هذه الأداة النضالية، وهي العنف الثوري المدني، فما كان يجري من حسابات مختلفة بين المعسكر اليساري الشيوعي وبين المعسكر الإمبريالي لا وجود له اليوم، ولا لمساحة تسمح لأي تحرك ثوري مدني للشرق المسلم أو الوطن العربي في التوازن الدولي.
فكتلة الموقف الدولي تتحشد ضد هذه الطموحات، فضلا عن دور القرار الإسرائيلي المستقل أو المشترك، مع قوى المشروع الغربي في خنق هذه المحاولات، والتوحد ولو مع شريك مختلف كما جرى مع إيران، أو رأس مال سياسي عربي لإسقاط هذه المحاولات بأي سبيل.
وعليه فإن تقدير حسابات التقدم نحو العنف الثوري المدني، لا تنطلق من مشروعية وحجم مظالم الشعب، وإنما من تقييم الموقف واستشراف النتائج، ومن ثم العودة إلى سؤال مهم هو الآخر، وهو هل استكملت حركة الكفاح العربي الحقوقي متطلبات ما قبل العنف الثوري المدني، لتأمين الشعب من حرب أهلية أو جحيم فوق طاقته، أو حروب تصب عليه من كل ناحية لوأد ربيعه في ليلة عرسه.
هنا تحديدا تبرز مسارات الكفاح الأخرى، سياسيا وثقافيا كبنية تحتية للمجتمع العربي الهش في إمكانية توظيفه، وقد رأى العالم لا العرب فقط، كيف تحولت أهازيج الحرية العربية، إلى ذكرى سيئة بمجرد عودة المستبد إلى أدوات التأثير، وتفويج جزء من الرأي العام ضد قيم الحرية، لطبيعة خوف الإنسان من القمع والمصير المجهول.
مهنا الحبيل
الجزيرة نت