تقرّر الولايات المتحدة الانسحاب من أفغانستان، بطريقة مخجلة معيبة، وتسليم البلد إلى حركة طالبان بعد عشرين عاما من التخطيط والتنفيذ، وتحاول الردّ على فشل قيادتها تحالفا دوليا هناك في مواجهة مجموعات مدرجة على لائحة الأمم المتحدة للمنظمات الإرهابية ببيان لمجلس الأمن، يدعو إلى وقف فوري لكل الأعمال العدوانية، وتشكيل حكومة عبر مفاوضات موسعة، تكون موحدة وجامعة. هذا هو الفراغ الاستراتيجي الذي يعكس حجم الهزيمة في كابول، والذي ستتحمّل الإدارة الأميركية وزره عقودا.
حمّل الرئيس الأميركي، جو بايدن، القيادات الأفغانية مسؤولية ما جرى في كابول، وقال إن الحكومة هناك انهارت بشكل أسرع من المتوقّع. “أعطيناهم كلّ فرصة لتقرير مستقبلهم. لا يمكننا إعطاؤهم الإرادة للقتال من أجل مستقبلهم”. يتحدّث بايدن وكأن بلاده ليست من أنفق 90 مليار دولار على بناء جيش أفغاني رفض إطلاق رصاصة في كابول. مشكلة بايدن تبقى أن الرئيس الأفغاني الهارب، أشرف غني، يقول إن أميركا تتحمّل مسؤولية إيصال الأمور إلى ما صارت عليه. قال إنها فاوضت “طالبان” سرا، واتفقت معها في فبراير/ شباط عام 2020، ودخول العاصمة الأفغانية حلقة من هذا المخطط. هناك من يؤكد هذا الكلام في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث يجري الحديث، من خلال تقرير مطوّل، من إعداد خبراء المجلس، عن بنود سرّية تم الاتفاق عليها بين واشنطن و”طالبان” تطبق الآن. أبلغت أميركا “طالبان” بخططها ونياتها، وفتحت الطريق أمام الحركة. جهّزت “طالبان” دولة الظل، بعد انسحابها إلى الجبال قبل عقدين، وهي الآن تريد أن تفرضها على أفغانستان بضوء أخضر أميركي.
عبّر وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، عن وجهة نظر كثيرين، عندما قال “ليس هناك ما يمكن تجميله، كلنا أخطأنا بتقدير الموقف في أفغانستان”. هناك أيضا قلق واضح من احتمال تساقط أحجار الدومينو في آسيا الوسطى، إذا ما أخطأت “طالبان” في تحديد المواقف والسياسات، وفتحت الطريق أمام انفجار إقليمي أوسع مع دول الجوار، مثل باكستان والجمهوريات المجاورة، وأصرّت عواصم كثيرة على الربط بين هذه المجموعات وتنظيمات جهادية متشدّدة سبق وأن نسّقت معها.
ثبت على الأرض أن مصالح أميركا هي أولوياتها من دون تمييز بين ترامب وبايدن، بين ما يقولانه، ولو على حساب أقرب الحلفاء
دعا رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، إلى عدم الاعتراف بحكومة في أفغانستان من صنع “طالبان”، وطالب بـ “موقف موحّد بين الجميع بقدر المستطاع”. وتحدّثت القيادات السياسية ومراكز القرار المؤثّرة في الملف الأفغاني عن ضرورة التريث لمعرفة شكل مسار المرحلة الانتقالية في أفغانستان. ولكن هناك من هو قلق من أن يفوته قطار التحوّل السريع في أفغانستان، ويدفع المزيد من الأثمان إذا ما تردّد أو تباطأ.
لا أحد يريد أن يناقش “طالبان” في طريقة وصولها إلى السلطة بقوة السلاح وطرد الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا. لا أحد يطرح فكرة التصدّي للتنظيم، أو يرفع شعار إعادته إلى الجبال، بعد انسحاب أميركا من المشهد، وقد خدعت الجميع في أفغانستان، ولذلك يتحرّك الجميع للانتقام من الإدارة الأميركية، بتقديم تساؤلاتٍ لا يهمه كثيرا التريث للحصول على إجاباتٍ عنها: هل هناك “طالبان” جديدة معدّلة بمعايير وطروحات مختلفة عما كانت عليه قبل 30 عاما؟ كيف ستكون خطة الاعتراف الدولي والأممي بالحركة، وهل هي مستعدّة للانفتاح على ما يقال لها، على الرغم من كل هذه المواجهات والتصعيد معها والتوصيفات التي أطلقت عليها؟
دفعت التطورات تركيا إلى رفع مستوى التنسيق مع اللاعب القطري الأقوى في الملف الأفغاني، كما يبدو، فخياراتها محدودة وضيقة، إما التريث لمعرفة طريقة تعامل المجتمع الدولي والمنظمات الأممية مع ما يجري في أفغانستان أو المسارعة إلى الاعتراف السياسي والدبلوماسي بهذه المجموعات في السلطة، حتى ولو كانت طريقة وصولها إليها بين الأساليب التي رفضتها تركيا في حالات مماثلة.
أميركا تتخلّى عن حلفائها وشركائها في منتصف الطريق، عندما ترى أن مصالحها تتطلب ذلك
اللافت هنا هو الحراك التركي – العربي على أكثر من جبهة إقليمية في محاولة لملء الفراغ الحاصل بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان وحالة الارتباك التي تعيشها واشنطن، ما يهدّد مصالح حلفائها وشركائها الإقليميين. فقد استقبل العاهل الأردني، عبدالله الثاني، في عمّان مطلع الأسبوع وزير الخارجية القطري، محمد بن عبد الرحمن، لبحث ملفاتٍ ثنائية وإقليمية “والأزمات التي تشهدها المنطقة، ومساعي التوصل إلى حلول سياسية لها”. وفي اليوم التالي، استقبل الملك وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو.
يقال إن التحول (والعملية الانتقالية) في أفغانستان، ينبغي أن تبدأ مع “طالبان” من خلال ممارسات وقرارات جديدة وسريعة، تعكس حقيقة أن “طالبان” لن تكون التي كانت ما قبل عام 2001. لكن القيادات الغربية كلها تعرف أنه، على الرغم من تصنيف عواصم عديدة الحركة تنظيماً إرهابياً، إلا أنها التقت بقادة من الحركة وفتحت أبوابها أمامهم، وسهلت للحركة فرص ترويج أفكاره. وواشنطن نفسها التي اعتبرت “طالبان” حركة إرهابية أبرمت معها اتفاقيات في السر والعلن، فلماذا يلتزم بعضهم بما تقوله إدارة بايدن وتقوله؟
يتذكّر الإعلام التركي، في هذه الآونة، ما قاله الرئيس الراحل، سليمان ديميريل، عن الفرق بين الجمهوريين والديمقراطيين في أميركا وطريقة رسمهم السياسات الخارجية “هو مثل طعم مشروب الكوكاكولا أو البيبسي كولا”. وفي أفغانستان، ثبت على الأرض أن مصالح أميركا هي أولوياتها من دون تمييز بين ترامب وبايدن، بين ما يقولانه، ولو على حساب أقرب الحلفاء. منذ سنوات وأميركا تتخلّى عن حلفائها وشركائها في منتصف الطريق، عندما ترى مصالحها تتطلب ذلك. وهذا ما فعلته مع شركاء حلف شمال الأطلسي أخيرا في أفغانستان.
سمير صالحة
العربي الجديد