الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، المثقف النخبوي الذي تلقى تعليمه في جامعات أمريكية، لديه كتاب عن «كيفية إصلاح الدول الفاشلة» لا يبدو أنه تمكن من تطبيق شيء من نظرياته، خلال توليه السلطة التنفيذية، لعلها فرصة نادرة لاختبار الفرق بين النظريات الأكاديمية المجردة، وصلاحيتها للتطبيق، وافتراضات المثقف النخبوي الحالم والحلول العملية الممكنة في مجتمعات المنطقة، التي تتطلب ضلوع علماء اجتماع وساسة لديهم اطلاع دقيق ومعرفة عميقة بهوية المجتمع ومشاكله. ولعل أحد الأسباب التي أدت لتضليل الأمريكيين بتقديرات خاطئة عن واقع البلدان التي حاولوا تغييرها كالعراق وأفغانستان، هو اعتمادهم على نخبة تشبههم وتماثل قيمهم، لكنها لا تشبه أغلب مجتمعاتها ولا قيمها.
ومن المفارقات أن للرئيس الأفغاني كتاباً آخر حول «الإعداد لانتقال السلطة في سوريا» ألفه عام 2012، أي أنه كان يتوقع قدوم مرحلة انتقالية ما بعد الأسد، وكتب عدة حلول وتصورات لتنفيذ انتقال سلمي للسلطة، وهو ما فشل في تنفيذه في بلده، عندما غادر دون ترك أي صيغة لانتقال سلس للسلطة، كما كان يحضه على ذلك الرئيس الأمريكي نفسه، إذ قال بايدن في خطابه الأخير حول أفغانستان، إنه تحدث مع غني عدة مرات وحثه على إجراء مفاوضات مع طالبان، تضمن الوصول لإدارة انتقالية سلمية للسلطة، لكن غني كان يؤكد أن قواته مستعدة للقتال.
يسود اعتقاد لدى معظم المحللين الأمريكيين والمسؤولين الذين خدموا في أفغانستان، بأن إداراتهم المتعاقبة أخطأت وفشلت في عدة مناحٍ تتعلق بأفغانستان، لكن اللافت هو الحديث عن إخفاق يتعلق بفهم طبيعة مجتمع البلاد، وكذلك العجز عن تغييرها لمجتمع ليبرالي. دوغلاس لوت وهو جنرال في الجيش خلال الحرب الأفغانية، خدم في البيت الأبيض خلال إدارتي بوش وأوباما، سجلت تقييماته مع مئات المسؤولين الأمريكيبن الآخرين، خلال مقابلات رسمية لم تكن معدة للعلن، قبل أن ينشرها مراسل صحيفة «واشنطن بوست» كريج ويتلوك في كتابه الشهير حول أفغانستان «أوراق أفغانستان: التاريخ السري للحرب» ومما قاله الجنرال دوغلاس عام 2015: «لم يكن لدينا فهم أساسي لأفغانستان، لم نكن نعرف ما الذي كنا نفعله، لم يكن لدينا أدنى فكرة عما كنا نقوم به». أما السيناتور الجمهوري رون باول، فقد نشر مؤخرا فيديو مطولا له يظهر تشكيكه بالفائدة من بقاء القوات الأمريكية في أفغانستان، وأكثر ما كان لافتاً في كلامه قوله «لا يمكننا تغيير أفغانستان». لعل هذا يشابه ما قاله زميله الجنرال الأمريكي ديمسي، الذي كان مدربا للقوات الخاصة الأفغانية، إذ علق على تصريح قديم لوزارة الخارجية الأمريكية بعد سقوط طالبان، وصفت فيها المرحلة آنذاك أنها «بداية جديدة للتاريخ في أفغانستان» علق ديمسي قائلا: «لقد افترضنا أن بقية العالم رآنا كما رأينا أنفسنا، وكنا نعتقد أنه يمكننا تشكيل العالم على صورتنا باستخدام بنادقنا وأموالنا، تجاهل كلا الافتراضين الثقافة والسياسة والتاريخ الأفغاني».
سبب إخفاق الأمريكيين في البلدان التي حاولوا تغييرها اعتمادهم على نخب تشبههم وتماثل قيمهم ولا تشبه قيم مجتمعاتها
يناقش الصحافي المختص في أفغانستان أحمد موفق زيدان ذلك في كتابه المهم «صيف أفغانستان الطويل» ويوضح كيف تمكنت طالبان من التغلغل وفرض نفوذها في القرى الريفية، وبناء شبكات تعاون مع القبائل والعشائر الأفغانية، وهو الأمر الذي فهمت الحركة أهميته جيدا، ولا يبدو أن الأمريكيين فعلوا، ويعتقد زيدان أن طالبان تعاملت مع جوهر أفغانستان كدولة قبلية، أما الأمريكيون فأرادوها دولة مدنية عصرية، فكان وقوعهم في الوهم. ولعل هذا ما دعا قائد الجيش البريطاني نيك كارتر، للخروج بتصريحات اعتبرت مفاجئة ولطيفة اللهجة عن طالبان، إذ رفض في لقاء مع «سكاي نيوز» استخدام مصطلح «العدو» مع طالبان، وقال إن «مقاتلي طالبان يربطهم ميثاق شرف وإن الشرف هو أساس كل ما يفعلونه» بلإنه اعتبر أن الحركة اجتذبت عناصر كثيرة بسبب أنهم «لا يريدون حكومة فاسدة» خاتما حديثه بالاعتقاد أن طالبان قد تغيرت حتى بالنظرة لحقوق النساء، مطالبا بمنحهم الفرصة للحكم مجددا.
مرد هذه التصريحات الإيجابية من قائد أحد جيوش التحالف، التي غزت أفغانستان، هو أنهم فشلوا في تحقيق أي تغيير في أفغانستان باستخدام أسلوبهم وأدواتهم طوال عشرين عاما، ولم يتمكنوا من فرض حلفاء أفغان قادرين على حكم البلاد وإدارتها أمنيا واقتصاديا وسياسيا. كما تحدث الضابط البريطاني عن طالبان بالنظر إليها كحركة ريفية، فهي تمثل تنظيما دينيا بروح ريفية، وينحدر معظم مقاتليها من أصول قروية، تنسجم في كثير من قيمها وذهنيتها العشائرية مع مجتمع الريف والقبائل البشتونية، أكثر حتى من مجتمعات المدن الحضرية الكبرى كمزار الشريف وكابول وقندهار وغيرها،
ويحلل الكاتب والباحث المصري أحمد دهشان المقيم في موسكو، ما حدث في أفغانستان تحليلا عميقاً يقول فيه «في غالب الأحيان وفي ظل الوضع العالمي الفوضوي تكون الخيارات السياسية بين السيئ والأسوأ، لا مكان للخيارات الجيدة فضلاً عن المثالية، وأفغانستان لم تكن في أي مرحلة من مراحلها مختلفة عما كانت عليه قبل 20 سنة، أو ما يتوقع أن تكون عليه، بعيدا طبعا عن الـ 9 صور اليتيمية لنساء عصريات، وقد يكون من المهم فهم رؤية الأفغان للمرأة وحقوقها، وتقييمهم لحركة طالبان، بعيدا عن نظرتنا التقدمية جداً، بمعيار كثير من الأفغان، قيام الحركة بحماية النساء من الاعتداء عليهم، وإلغاء العادة الأفغانية بإجبار الأرملة على الزواج من شقيق زوجها، كان نصرا كبيرا للمرأة».
وائل عصام
القدس العربي