لم يكن المشهد الذي تابعه العالم من مطار كابول يوم الأحد الماضي مثيرا للدهشة فقط، وإنما كان باعثا أيضا على أشد أنواع الحيرة التي يلفها الغموض، فبينما كانت قوات حركة طالبان، المصنفة إرهابيا على القوائم الأميركية، تتجه مرفوعة الرأس، بزهو المنتصر، نحو أبواب العاصمة الأفغانية، بعد نجاحها في السيطرة على معظم المدن الرئيسية الأخرى، كانت القوات الأميركية، والتي جاءت إلى هذا المكان أصلا لتسقط “طالبان” وتمحوها من الوجود، تهرول مسرعةً نحو طائراتها العسكرية المصطفّة في المطار، استعدادا للعودة منكّسة الرأس إلى واشنطن، في الوقت الذي كان فيه آلاف المواطنين الأفغان، من المتعاونين مع الاحتلال الأميركي أو من الخائفين من عودة “طالبان” إلى مقاعد الحكم، أو خليط من هذين الصنفين معا، يتدافعون للحاق بطائراتٍ تتهيأ للإقلاع. وحين لا يجدون فيها موطئا لقدم كانوا لا يتردّدون في الاختباء تحت أجنحتها، أو يهرولون للإمساك بإحدى عجلاتها قبل أن تنطلق في الجو! ولأنه مشهدٌ لم يكن يوحي إطلاقا أننا إزاء عمليةٍ منظمةٍ لانسحابٍ متفقٍ عليه سلفا، بل الأحرى إزاء حالة من الارتباك التام والفوضى الشاملة، فقد تولد لدى المشاهد إحساسٌ قويٌّ بأن الولايات المتحدة لا تنسحب من أفغانستان باختيارها وإرادتها الحرة، وإنما تفرّ منه مضطرة ومرغمة، بعد أن أيقنت أنها ستخسر حربها ضد “طالبان” لا محالة، حتى لو قرّرت البقاء في أفغانستان ألف عام أخرى… جملة من الملاحظات يستدعيها هذا المشهد الباعث على الحيرة والملفوف بالغموض!:
الأولى: تتعلّق بملابسات الغزو الأميركي لأفغانستان وأسبابه وأهدافه المعلنة والخفية: فعلينا أن نتذكّر، ونحن نتابع ما يجري اليوم في أفغانستان أن هذا الغزو بدأ يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2001، أي بعد أسابيع قليلة من أحداث “11 سبتمبر” التي جرى خلالها تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك، وقتل ما يقرب من ثلاثة آلاف شخص. السبب المعلن لهذا الغزو رفض حركة طالبان التي كانت تتولى السلطة في أفغانستان منذ العام 1996 تسليم زعيم تنظيم القاعدة المتهم بتدبير “11 سبتمبر”، أسامة بن لادن، وكان يتخذ من أفغانستان مقرّا له. لذا، يمكن القول إن غزو أفغانستان كان يعدّ، من المنظور الأميركي، مجرد مرحلة أولى في “حربٍ كونيةٍ على الإرهاب”، تقودها الولايات المتحدة، وكان ينبغي أن تشارك فيها دول العالم كافة. وقد استطاعت القوات الغازية هزيمة “طالبان” بسهولة خلال أيام معدودة، ثم شرعت سلطة الاحتلال الأميركي على الفور في إقامة نظام سياسي أفغاني جديد، كانت تأمل أن يكون أكثر ديمقراطية وأقل قابلية لتفريخ الإرهاب. لذا يمكن القول إن الأهداف المعلنة للغزو تمحورت حول إسقاط حركة طالبان وتدميرها واستئصال جذورها، من ناحية، وإعادة بناء الدولة الأفغانية على أسس جديدة، من ناحية أخرى. غير أن تطوّر الأحداث أثبت أنه كانت لدى الإدارة الأميركية القائمة آنذاك، بقيادة جورج دبليو بوش الابن، أجندة خفية تسعى إلى تمكين الولايات المتحدة من إحكام هيمنتها المنفردة على النظام العالمي، وتحويل القرن الواحد والعشرين إلى قرن أميركي خالص، ما دفعها إلى العمل على استغلال أحداث “11 سبتمبر” وتوظيفها لخدمة مشروع اليمين الأميركي الجديد، بدليل أنه ما إن نجحت في إزاحة “طالبان” حتى حوّلت وجهتها نحو العراق، وقامت بغزوه وإسقاط نظامه الذي لم تكن له أي صلة بالإرهاب. ومن المفارقات أن عام 2003، والذي جرى خلاله غزو العراق، كان العام الذي تمكّنت فيه حركة طالبان من إعادة تنظيم صفوفها، وبدأت تخوض حرب عصابات ضد الاحتلال الأميركي في أفغانستان.
الديمقراطية لا تُستورد ولا تُفرض من الخارج، وإنما يجب أن تنبع من داخل الشعوب نفسها، وأن تعكس آمالها وطموحاتها
الثانية: تتعلق بمسار هذه الحرب ونتائجها، فقد أنفقت الولايات المتحدة، خلال فترة احتلالها أفغانستان، والذي استمر عشرين عاما متواصلة، أكثر من تريليون (ألف مليار) دولار، وخسرت أكثر من 2400 قتيل، بخلاف حوالي 27000 جريح. أما الجانب الأفغاني فقد خسر ما يقرب من ثلاثة ملايين شخص بين قتيل وجريح. ولم يتمكّن النظام الذي أقامته الولايات المتحدة ليحل محل نظام “طالبان” من السيطرة على كامل الأراضي الأفغانية في أي وقت، على الرغم من امتلاكه جيشا قوامه ثلاثمائة ألف مقاتل، ومسلح بأحدث أنواع الأسلحة. ومن المفارقات أن هذا الجيش الضخم لم يتمكّن من الصمود أمام حركة طالبان، والتي لم يتجاوز تعداد مقاتليها 75000 مقاتل.. صحيحٌ أن الولايات المتحدة كانت، ولأسباب داخلية في المقام الأول، قد قرّرت، منذ سنوات، أن تنسحب من أفغانستان، وقامت بالفعل بتخفيض قواتها هناك أكثر من مرّة، إلا أنها ظلت تأمل أن يتمكّن النظام البديل الذي أقامته من البقاء والاستمرار، وهو ما لم يحدُث، فقد سقط هذا النظام الذي تصوّرت الولايات المتحدة أنه يقدّم نموذجا أرقى من نظام “طالبان”، وانهار في أول اختبار حقيقي، حتى من قبل أن تبدأ قوات “طالبان” في اقتحام العاصمة، بل وفرّ رئيسه إلى الخارج، حاملا معه أقصى ما يستطيع من الأموال المنهوبة!
الثالثة: تتعلق بالأسباب التي أدّت إلى تمكين حركة طالبان، ليس فقط من العودة إلى المشهد السياسي في أفغانستان، بل من الهيمنة عليه أيضا وبشكل منفرد. إذ يعتقد بعضهم أنه ما كان في وسع “طالبان” أن تنجح في السيطرة المنفردة على أفغانستان، على نحو ما تم، ما لم تكن قد تمكّنت من التوصل سلفا إلى صفقة مع الولايات المتحدة، تقبل “طالبان” بموجبها أن تتحوّل إلى أداةٍ يمكن للولايات المتحدة استخدامها للضغط على أعدائها، خصوصا إيران والصين وروسيا الاتحادية. ويستند هؤلاء إلى أن “طالبان” والولايات المتحدة دخلا في مفاوضاتٍ مباشرة استضافتها الدوحة، أسفرت عن اتفاق بينهما أبرم بالفعل في فبراير/ شباط 2020، وتضمّن بالفعل جدولا زمنيا محدّدا لإتمام الانسحاب الأميركي من أقغانستان. غير أنه لا توجد، في تقديري، شواهد على صحة هذه النظرة التآمرية. فمن ناحيةٍ، يُلاحظ أن الاتفاق لم ينفذ بالكامل، خصوصا وأنه تضمّن بنودا عديدة، توقف تنفيذها على توصل “طالبان” إلى اتفاق مسبق مع النظام الأفغاني الحاكم، خصوصا ما يتعلق منه بكيفية إدارة المرحلة الانتقالية التي كان يفترض أن تعقب الانسحاب الأميركي، وهو ما لم يتم. على صعيد آخر، يخيّل إليّ أن الافتراض القائل إن حركة طالبان قابلة للتحوّل هكذا، وفي غمضة عين، من عدوٍّ يخوض حرب تحرير وطنية ضد الاحتلال الأميركي، إلى حليفٍ يمكن توظيفه رأس حربة تعمل لحساب الولايات المتحدة ضد إيران والصين وروسيا الاتحادية، هذا الافتراض ينتمي إلى حقل “البهلوانية السياسية” أكثر مما ينتمي إلى حقل “الواقعية أو البراغماتية السياسية”.
انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يأتي استجابةً لرؤية أشمل لإدارة الأزمات الدولية، تهدف إلى تقليص الاعتماد على أدوات القوة الخشنة
الرابعة: تتعلق بالانعكاسات المحتملة لما جرى في أفغانستان خلال الأسبوع الماضي على تطور الأوضاع في منطقتنا وفي العالم. وفي تقديري، يتلخص ما جرى في أن الولايات المتحدة أجبرت على الانسحاب من أفغانستان، ومن ثم أقرّت بهزيمتها عسكريا أمام “طالبان” على المستوى التكتيكي على الأقل، كي تتمكّن من وضع حد لعملية استزافٍ قد يؤدي استمرارها إلى إضعافها استراتيجيا على المدى الطويل. بعبارة أخرى، يمكن القول إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان يأتي استجابةً لرؤية أشمل لإدارة الأزمات الدولية، تهدف إلى تقليص الاعتماد على أدوات القوة الخشنة، واستبدالها بأدوات القوة الناعمة والذكية، الأمر الذي يتطلب عدم زجّ قوات أميركية مقاتلة في الميدان إلا في حالات الضرورة القصوى ولفترات محدودة جدا، والاكتفاء بالاحتفاظ بقواعد عسكرية ثابتة في مناطق حيوية من العالم، بعيدا عن مناطق التوتر. لذا يتوقع أن يعقب الانسحاب الأميركي من أفغانستان انسحاب تدريجي من مناطق أخرى، كالعراق وسورية، والاعتماد أكثر على القوى الإقليمية الحليفة، كإسرائيل وتركيا، في القيام بالمهام القتالية نيابة عنها عند الضرورة. أما بالنسبة للصراع المستقبلي مع قوى لديها طموحات كونية، كالصين وروسيا الاتحادية، لدى الولايات المتحدة من أدوات القوة الناعمة ما يمكّنها من مواجهة التحدّي، من دون اللجوء إلى الدخول في حروبٍ أو عمليات قتالية.
.. هل يمكن القول، استنادا إلى ما سبق من ملاحظات، إن الولايات المتحدة استخلصت الدروس الصحيحة من تجربة الحرب المريرة في أفغانسنان؟ ربما! لكن ما هي بالضبط هذه الدروس؟ أظن أنها تنحصر في ثلاثة: أن الحرب ليست هي الوسيلة الأفضل للتوصل إلى الأهداف المنشودة عند إدارة الأزمات الدولية. أن الإيمان بعدالة القضية التي نحارب من أجلها، والإصرار على مواصلة النضال مهما بلغت التضحيات، هما مفتاحا النصر في أي مواجهات دولية. أن الديمقراطية لا تُستورد ولا تُفرض من الخارج، وإنما يجب أن تنبع من داخل الشعوب نفسها، وأن تعكس آمالها وطموحاتها.
حسن نافعة
العربي الجديد