تتعامل طهران مع انتصار حركة طالبان واستلامها الحكم في أفغانستان المجاورة بحذرٍ يخالطه قدر كبير من الأمل، على غرار دول أخرى، مثل الصين وباكستان وروسيا وتركيا والهند، مع اختلاف البواعث لدى كل من هذه الدول. وتكمن مصادر الحذر الإيراني في عوامل متعدّدة، يتقدّمها العامل الأيديولوجي الذي يعني الكثير لطهران، فلئن أعلنت “طالبان” أفغانستان إمارة إسلامية، فإن هذه الإمارة المتجهة إلى إرساء حكم ديني ذات صبغة سنّية، وطهران معنية بتخفيض الوزن السياسي والاستراتيجي للقوى السنّية في العالم، لا زيادته، وذلك في محاولتها إظهار أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي طليعة من يمثل المسلمين في العالم، وهي مرجعيتهم وملاذهم. هذا على الرغم من أن “طالبان” لم تكن، خلال فترة حكمها السابقة (1996 ــ 2001) معنية بافتتاح المعاهد الدينية أو زيادة بناء المساجد، غير أن من الواضح أن رجال الدين، أو على الأقل الملتزمين دينياً، هم المؤهلون لإدارة دفّة الحكم راهناً، وفي الأمد المنظور في أفغانستان، إذ إن الحركة ذات مرجعية دينية، ولا تحتكم إلى فكر “دنيوي”. أما طهران فإنها لا تجد غضاضة في الجمع بين الاعتبارات البراغماتية والعقائدية. ومغزى ذلك أن العائق المذهبي، على الرغم من أهميته بالنسبة للمسؤولين فيها، لا يمنع التعاون مع الطرف الإسلامي الآخر. وكما هو الحال في التعاون مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة، ومن دون أن تكف طهران عن محاولات إنشاء جماعاتٍ تتبع عقائدياً ومذهبيا لها.
الأمر الثاني الذي يثير حذر طهران، كما غيرها، أن كابول الجديدة باتت محكومة من جماعات مقاتلة ومتمرسة في القتال، وأن أي خلاف سياسي معها يسهل أن يقود إلى احتكاك عسكري. ورجال الدين أنفسهم قادة عسكريون، خلافاً لرجال الدين “المدنيين” الحاكمين في طهران، على الرغم من عسكرتهم المجتمع عبر الحرس الثوري والباسيج. والأمر يحتاج إلى التريث قبل أن ينتقل زعماء “طالبان” إلى الحياة المدنية، ويزاولوا السياسة مثل غيرهم. يُضاف إلى ذلك غياب الأجسام السياسية (الأحزاب خصوصاً) عن الحياة في أفغانستان، إذ إن التقسيمات القبلية والعرقية هي التي تشكل قوى الدفع والتدافع في المجتمع.
تتعامل “طالبان” مع الآخرين من موقع القوة، وليست في هذه المرحلة في وارد التنازل لأحد، بعد أن رفضت التنازل للقوة العظمى
الأمر الثالث أن “طالبان” ما زالت تحت تأثير نشوة النصر على الولايات المتحدة، وليست في هذه المرحلة في وارد التنازل لأحد، بعد أن رفضت التنازل للقوة العظمى، وتتعامل مع الآخرين من موقع القوة. الأمر الرابع أن طهران تدرك مدى الحذر في أفغانستان منها، فإيران تضم مهاجرين أفغاناً يقدّر عددهم بمليونين ونصف مليون نسمة، كما أنها أعلنت استعدادها لاستقبال لاجئين أفغان جدد بعد وصول “طالبان” إلى الحكم، وحدّدت ثلاث محافظات حدودية لاستقبالهم فيها. وقد يشكّل هؤلاء جميعاً قنبلة على الحدود، بالنظر إلى النهج الإيراني في توظيف كتلة اللاجئين لخدمة سياستها. وبين اللاجئين هناك أعداد كبيرة ممن ينتمون إلى قبيلة الهزارة الشيعية، ووظفت طهران الشبيبة منهم في مليشيات (بالذات مليشيا فاطميون)، قاتلت وما زالت تقاتل في سورية المعارضة السورية المسلحة، بل تفيد تقارير بأن طهران دفعت بشبان أفغان إلى القتال إلى جانبها في الحرب مع العراق خلال ثمانينيات القرن الماضي. ومع إقرار حق هؤلاء اللاجئين بالعودة الطوعية إلى بلادهم وفي ظروف آمنة، إلا أن احتمال تجييشهم من إيران يبقى هو المحذور الماثل. على أن ذلك كله لن يوقف التطلع الإيراني نحو أفغانستان التي تشاطرها حدود طويلة، تبلغ نحو ألف كيلومتر، فطهران تستثمر في الأزمات والصراعات، وليس في الظروف السلمية والطبيعية. ومن المفارقات أن طهران رحبت في عام 2001 بزوال حكم “طالبان” والهيمنة الأميركية على ذلك البلد، وبعد نحو عشرين عاماً رحّبت بانتصار “طالبان” والهزيمة الأميركية.
الأمر الخامس أن طهران تتوجس من تأثيرات دول مهمة أخرى، مثل باكستان وتركيا والسعودية وقطر، على الحكم الجديد في أفغانستان، وخصوصاً في مجالات الإعمار وبناء البنى التحتية، في وقتٍ ما زالت تعاني فيه من آثار العقوبات الاقتصادية. وقد يشكل التزوّد بالنفط الإيراني الخاضع للعقوبات ورقة ثمينة بيد طهران، بيد أنه بداية محفوفة بالمحاذير للحكم الأفغاني الذي يسعى إلى تقديم نفسه للعالم نظاماً سياسياً مسؤولاً. ومعلوم أن إيران التي تشكو من شحّ في المياه (خرجت احتجاجات في عدد من المحافظات قبل أسابيع على خلفية الشكوى من النقص في المياه) قد عرضت على كابول مقايضة النفط بالماء، علماً أن أحد الأنهر الأفغانية الطويلة (هلمند) يصل إلى الأراضي الإيرانية، هذا في وقت نشطت فيه الهند ببناء سدود في الأراضي الأفغانية في فترة الحرب، فكيف في مرحلة صمت المدافع.
تتعزز القناعة الإيرانية بأن الولايات المتحدة في طور الانسحاب وتقليص النفوذ العسكري والاستخباري، ما يمثّل لطهران فرصة لمدّ نفوذها
لهذه العوامل، تبدو طهران على جانب من الحذر في التعامل مع الوضع الأفغاني الجديد، غير أنها، في الوقت نفسه، تجد أن هناك عناصر مشجّعة تدفعها إلى التقارب مع “طالبان”، وفي مقدمها العامل السياسي، ممثلاً بمناوأة الولايات المتحدة، وما ألحقته “طالبان” من ضربة معنوية (ومادية) قاصمة بأميركا. ومن المنتظر أن تغذّي طهران هذا العداء، وتسعى إلى إدامته، من أجل الحفاظ على أرضية مشتركة، هذا على الرغم من حاجة “طالبان” لرفع العقوبات عنها وعن قادتها، وكذلك الحاجة إلى الاعتراف الدولي بالنظام السياسي الجديد. وبينما هنأ خطيب جامع زاهدان السني والمقرب من السلطات الايرانية، مولوي عبد الحميد، “طالبان” بالانتصار الكبير، فإن متحدّثاً باسم الخارجية الإيرانية، هو سعيد خطيب زاده، لم يتردّد في القول، نيابة عن الأفغانيين، إن أمن أفغانستان من أمن إيران.. مع الدعوات إلى تشكيل حكومة ائتلافية، تضم جميع المكونات. ويتبع ما تقدم أن هذا التطوّر يعزّز القناعة الإيرانية بأن الولايات المتحدة في طور الانسحاب وتقليص النفوذ العسكري والاستخباري، وهو ما يمثّل لطهران فرصة لمدّ نفوذها، وخصوصاً في الدول الضعيفة اقتصادياً، أو التي تشهد نزاعات أو غير المستقرّة أوضاعها، وأفغانستان نموذج “مثالي”.
عامل آخر يُثير تفاؤل طهران، وهو أنه عبر علاقات نشطة مع “طالبان”، فإنه يسعها التغلغل عبر أفغانستان، وتزخيم الصلات مع جماعة الهزارة، أعراق أخرى، مثل الطاجيك، ومحاولة ربطها بإيران بمختلف الوسائل، واستخدامها جسراً إلى بسط النفوذ أو ممارسة الضغوط على كابول، حسب مقتضى الظروف. علاوة على عامل ثالث، سوف تتهافت عليه دول أخرى، من بينها الصين وروسيا، وذلك بالخوض في مغامرة الوصول إلى المعادن الثمينة النادرة، والسعي إلى تعدين الخام منها، ومحاولة عقد اتفاقيات اقتصادية في أقصر الآجال الممكنة، تشمل هذه المعادن. وعامل الوقت على جانبٍ من الأهمية، فثمّة فراغ في السلطة والإدارة في هذا البلد، وسوف تسعى دول شتى إلى أن يتم إشغال هذا الفراغ بما يخدم مصالح هذه الدول، ومن بينها إيران.