القت الأحداث الأخيرة في أفغانستان ظلالها على جميع الأوضاع الإقليمية والدولية وتحديدا الدول المجاورة لها لما ستؤول إليه نتائج التغيير السياسي وعودة حركة طالبان لاستلام زمام الحكم والإدارة وطبيعة الإجراءات والوسائل التي ستعمل على استخدامها وتنفيذها في علاقتها داخل المجتمع الأفغاني ودول العالم ، ويبقى المشهد الإيراني أكثر المشاهد حيوية وتاثيرا في رؤيته ومتابعته لتطورات الأحداث بسبب التداخل الذي اتبعه في تعامله المستمر مع الحدث الأفغاني وعلاقته مع معظم التيارات والفصائل المسلحة ومنها الحكومة الأفغانية التي تشكلت بعد الاحتلال الأمريكي للبلاد في تشرين الثاني ٢٠٠١ .
بدأ النظام الإيراني حريصا على تعامله وبحذر شديد مع وجود أكثر من رأي في أروقة مركز صنع القرار لأهمية الحدث وخوفا من النتائج المترتبة على مستقبل العلاقات بين البلدين ووجود مخاطر عديدة على المصالح الإيرانية من تشكيل بؤر أمنية على امتداد الحدود المشتركة التي تبلغ مسافتها (٨٢٠) كم تهدد الأمن القومي الإيراني ولها تداعيات سياسية واقتصادية بسبب الاختلاف الجوهري في الأيديولوجية الإسلامية لطالبان والتي تنافس ولاية الفقية وتعقيدات التعامل معها .
أوضحت الأوساط السياسية الإيرانية المؤيدة لتوثيق العلاقة مع حركة طالبان انها أصبحت تمثل عمقا اجتماعيا كبيرا وتحظى بتأييد واسع من الشعب الأفغاني وتمتلك شرعية سياسية في قيادة البلد وأكد الرؤية (احمد نادري ) عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني بقوله (ان طهران بحاجة إلى إعادة النظر في موقفها من حركة طالبان بوصفها حركة متأصلة ذات قاعدة اجتماعية واسعة ) مستندا على العلاقات الأمنية والسياسية التي سعى إليها النظام الإيراني في قراءته للمستقبل الأفغاني عندما استضاف قائد الحركة(الملا إختر منصور ) واجرى معه عدة حوارات عام ٢٠١٦ والذي استهدف و قتل بعد خروجه من إيران بطائرة مسيرة أمريكية قبل وصوله إلى داخل الأراضي الأفغانية، وامتدت العلاقة لتكون علنية في تموز ٢٠٢١ عندما استضافت الخارجية الإيرانية وفدا مشتركا يمثل الحركة والحكومة الأفغانية السابقة وتوضيح الرؤية الإيرانية بتشكيل(حكومة إسلامية ائتلافية ) تضم جميع التيارات السياسية والدينية في أفغانستان، وكانت إيران تسعى من هذه الفكرة الحفاظ على علاقتها مع جميع الأطراف واستمرار مصالحها الاقتصادية والسياسية مع اي حكومة قادمة، ولأجل تعزيز حالة الاطمئنان لدى الايرانيين فقد أعلن(ذبيح الله مجاهد ) الناطق الرسمي لحركة طالبان عبر وكالة تسنيم الإيرانية المقربة من الحرس الثوري(ان الحركة تضمن للاخوة الشيعة انهم لن يتعرضوا إلى تمييز) مبينا أن طالبان قد غيرت من توجهاتها.
اما الطرف الإيراني الذي يخشى استعادة العلاقة مع طالبان فإنه يعود إلى الأحداث التي جرت في ٨ آب ١٩٩٨ بمدينة مزار شريف الأفغانية والتي أدت إلى مقتل(١١) دبلوماسيا ايرانيا ومراسل إعلامي بعد هجوم عناصر طالبان على مقرالقنصلية الإيرانية، وكان من الممكن أن تتقدم قطعات من الجيش الإيراني وتدخل المستنقع الإيراني لولا رفض الرئيس الإيراني محمد خاتمي ومنع قيادات في الحرس الثوري والمخابرات الإيرانية من تنفيذ خططها نحو الأراضي الأفغانية ، وانتقدت صحيفة جوان القريبة من الحرس الثوري قرار الرئيس حسن روحاني باستضافة مسؤولين من طالبان ورأت أن من الخطأ التقارب معهم ، وبهذا نكون أمام ازدواجية واضحة للفهم السياسي للحدث الأفغاني داخل المنظومة الإيرانية.
ونرى أن التخوف سببه أن إيران ساهمت في دعم (تحالف الشمال ) الذي ضم قيادات سياسية ودينية أفغانية بقيادة عبد الرشيد دوستم وبرهان الدين رباني واسماعيل خان والذين ساهموا في القتال بجانب قوات الغزو الأمريكي لأفغانستان ليصبحوا شركاء رئيسين في السلطة السياسية التي أنشأتها الإدارة الأمريكية بعد القضاء على حركة طالبان نهاية عام ٢٠٠١ ، واستمر الدعم الإيراني للحكومة الأفغانية بتوجيه لواء فاطميون الذي يضم (٥) آلاف مقاتل معظمهم من إقليم الهزارة الشيعية والذي تم تشكيله من قبل الحرس الثوري الإيراني في قتال عناصر داعش واستغلت الأجهزة الأمنية والاستخبارية الإيرانية هذا الدعم بتشجيع الهزارة للوصول إلى مواقع أمنية وسياسية والمشاركة في الانتخابات الافغانية وتمكنت من الحصول على تمثيل برلماني بواقع (٦١) مقعد من أصل(٢٤٩) وبنسبة ٢٤% وساهمت في السباق الرئاسي عام ٢٠١٩ بمشاركة(كريم خليلي ومحمد محقق) وبدعم من رئيس الحكومة عبدالله عبد الله وتمكنت الطائفة الشيعية لأول مرة من الحصول على تمثيل لهم في المحكمة العليا ومجلس الأعلى للقضاء الأفغاني والاعتراف بالمذهب الشيعي في دستور الدولة .
كان للتوجيه الإيراني بتاسيس أحزاب سياسية شيعية أثره الواضح في خارطة العمل السياسي الأفغاني فنشأت أحزاب(الوحدة والاقتدار ووحدة الشعب والحركة الإسلامية وحزب الله الأفغاني ) ونجحت إيران في ترجيح العلاقات المذهبية الشيعية على الروابط العرقية لبناء قاعدة سياسية صلبة تصل إلى دوائر صنع القرار وبناء جدار أمني سياسي يحمي الأقلية الفارسية التي يرى فيها النظام الايراني أنها والقبائل الأفغانية من أصول فارسية تشكل رعايا لطهران وواجب حمايتهم وتوظيفهم في مشاريعهم السياسية.
وهناك أيضا المسألة الجوهرية الاقتصادية التي أسست لها الدوائر المالية الإيرانية بزيادة حجم التبادل التجاري بين إيران وأفغانستان حتى بلغ ٤ مليار دولار سنويا ورغم العقوبات المفروضة على النظام الإيراني إلا أنه تمكن من تصدير ما قيمته ١٥١ مليون دولار بداية عام ٢٠١٩ وتقديم الدعم التكنولوجي بالتعاون مع شركة برشنا الأفغانية لبناء وصيانة المحولات الكهربائية التالفة وتوربينات الطاقة في أفغانستان.
امام هذه المخاوف السياسية والاقتصادية والأمنية والحرص على الحفاظ على مصالحها داخل الأراضي الأفغانية وبعد أن أيقنت أن القادم من الأيام سيشهد تغييرا سياسيا في البلاد بعد أن لمست حقيقة التقدم والسيطرة الميدانية التي تحققها حركة طالبان على المدن والقصبات الأفغانية سارعت إيران بتعزيز علاقتها مع الحركة استنادا إلى التعاون والدعم العسكري والمادي الذي قدم لمقاتلي حركة طالبان من قبل النظام الإيراني والذي بدأت أولى خطواته بعد أن شعرت طهران بالتواجد العسكري الأمريكي على حدودها الشرقية وطبيعة العلاقة التي ساءت مع الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس ترامب ورأت أن هناك هدفا مشتركا يربطها مع طالبان وهي استهداف القوات الأمريكية داخل الأراضي الأفغانية واوجدت العديد من العوامل المساعدة في إعادة العلاقة بشكل إيجابي وتحسين الموقف الإيراني في سياسة مزدوجة أراد منها النظام الإيراني الحفاظ على المكتسبات السياسية والتبادل التجاري والمصالح المالية وحماية الأقلية الشيعية والقبائل من أصول فارسية بعد تسلم طلبان زمام إدارة البلاد ،وعملت إيران على سحب الملف الأفغاني من الخارجية الإيرانية إلى قيادات الحرس الثوري وفيلق القدس.
يرى النظام الإيراني ان الأحداث القائمة في أفغانستان وصور الانسحاب الأمريكي المرتبك والنتائج الميدانية التي حققتها حركة طالبان على الأرض ورغبة الحفاظ على علاقات هادئه وحكمة في التعامل الميداني وحماية الأمن القومي الإيراني فإن النظام يرى أن حركة طالبان هي حركة متجددة وان هناك فرصة للاتفاق معها لتحقيق سلام دائم في المنطقة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية