على الرغم من أن التقنية العسكرية الحديثة مثل التوجيه عبر الرادار ومساعدات الملاحة عبر نظام التموضع العالمي تجعل التحليق غير المقصود فوق الأراضي المجاورة نادراً نسبياً، إلا أن مثل هذه الحوادث تقع في العمليات العسكرية. لكن ما يجعل التحليق الروسي فوق الأراضي التركية في 3 تشرين الأول/أكتوبر، مدعاة للقلق فعلاً هو موقعه. فوفقاً لبيان صحفي صدر عن وزارة الخارجية التركية في 5 تشرين الأول/ أكتوبر، حلقت طائرة روسية فوق مدينة يايلاداغي في مقاطعة هاتاي. وبما أن هذه المنطقة قريبة من الحدود السورية وليست بعيدة عن مناطق القتال بين نظام الأسد وقوات الثوار، فهي ذات أهمية هائلة لأسباب أخرى.
إن سكان مقاطعة هاتاي هم جزئياً من العرب المنتمين إلى الطائفة العلوية في الإسلام – وهي الطائفة نفسها التي ينتمي إليها بشار الأسد ومعظم الجنرالات والمستشارين والمؤيدين الأقرب إليه. كما وتتمتع المقاطعة بتاريخ معقد قد يؤدي إلى تعقيد حسابات أنقرة حول التدخل الروسي. وحتى أوائل القرن العشرين كانت هاتاي تُعرف بـ “سنجق الإسكندرون”، ولم يكن سكانها الذين يشكلون خليطاً من العلويين والسنة العرب والأتراك والتركمان والشركس والأرمن و[المسيحيين] المشرقيين والأكراد جزءاً من تركيا كما أُنشئت وفقاً لـ “معاهدة لوزان” بعد الحرب العالمية الأولى. بل جرى انتداب المنطقة إلى فرنسا إلى جانب سوريا ولبنان.
لقد تمتعت هاتاي بوضع خاص في إطار الانتداب الفرنسي و”الدولة” السورية، مع منح المجتمع التركي حقوق ثقافية ولغوية خاصة به. وفي وقت لاحق طالب الرئيس التركي الأول مصطفى كمال أتاتورك بهذه الأراضي وأصبحت في النهاية “جمهورية” في عام 1938 تحت وصاية فرنسية وتركية مشتركة. وبعد ذلك بوقت قصير، أنشأت المعاهدة البريطانية-الفرنسية-التركية لعام 1939 اتفاقية أمنية متبادلة بين الدول الثلاث، واعتُبر التنازل عن هاتاي إلى تركيا بمثابة مقابل لانضمام أنقرة إلى الاتفاق. وعلى الرغم من أن تركيا لم تساعد فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية، نظراً إلى بند إعفائها من أي صراع قد يؤدي إلى قتال مع الاتحاد السوفياتي، الذي تحالف مع ألمانيا في عام 1939، إلا أنها استمرت في الاحتفاظ بهاتاي.
بيد أن سوريا لم تعترف يوماً بشكل رسمي بفقدان هاتاي ومجتمعها العلوي الكبير. كما أن الخرائط السورية لا زالت لا تُظهر هاتاي كجزء من تركيا (وحتى وقت قريب، حافظ النظام على موقف جغرافي مماثل تجاه لبنان بأكمله). وفي حين توقفت دمشق عن التشديد على هاتاي كجزء من أراضيها خلال ذوبان الجليد في العلاقات – قبل عقد من الزمن – بين الأسد ورئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، إلا أنها لم تعترف رسمياً بسيادة تركيا. وفي السنوات السابقة، كانت هاتاي جزءاً من مجمع المواجهات المماثل للحرب الباردة بين أنقرة ودمشق، والذي شمل دعم سوريا لـ «حزب العمال الكردستاني» المتمرد وتأمين ملجأ لزعيمه، على الأقل إلى أن هددت تركيا بغزو سوريا في أواخر التسعينات. وعندما سُئل عن التهديد السوري للمقاطعة في منتصف الثمانينات، أجاب الرئيس التركي وقائد الجيش كنعان إيفرين بكلمة واحدة: “Gelsinler“، أو “دعوهم يأتون”.
وبصفته الرئيس السوري والزعيم غير الرسمي للطائفة العلوية، من الواضح أن بشار الأسد يعرف هذه القصة بأكملها. ولكن هل تعرفها موسكو؟ من الصعب أن نعتقد أن هذا السياق قد يغيب عن دولة مهووسة لهذه الدرجة بماضيها وبمطالباتها التاريخية (شبه جزيرة القرم ليست سوى مثال واحد من العديد من الأمثلة).
لذلك، هل يمكن للمرء أن يستنتج أن التحليق فوق تركيا كان متعمداً؟ هل كان وسيلة لتحذير تركيا من أنها إن لم تحسن سلوكها في القضية السورية، حيث هي على خلاف عميق مع روسيا والأسد، فقد تدفع ثمناً باهظاً في يوم من الأيام؟ ربما. ولكن ما يمكن للمرء قوله مع مزيد من اليقين هو أن تنظيم عسكري عقلاني بحكم معرفته للتاريخ، كان سيعطي تحذيرات خاصة لطياريه ولوحدات التحكم بالرادار بعدم انتهاك المجال الجوي في هاتاي، وذلك في جزء منه لتجنب كتابة مقالات كهذا المقال، تشكك بالأسوأ. وعلى الأقل، يبدو من غير المحتمل أنه تم إعطاء مثل هذه التحذيرات. وعلى نطاق أوسع، بينما يغيّر بوتين الوضع القائم باستخدام القوة في الشرق الأوسط، كما فعل في أوروبا الشرقية منذ عام 2008، فإنه لم يعد بإمكان المجتمع الدولي استبعاد أي دافع لأفعاله.
جيمس جيفري
معهد واشنطن