لم تَعُد تهديدات التطرف الفكري مقتصرة على دول الإقليم المجاورة لبؤر الصراعات الأهلية فحسب،وإنما تحولت في الآونة الأخيرة إلى ظاهرة عالمية عابرة للحدود، بسبب تصاعد مخاوف المؤسسات الأمنية في الدول الغربية من انتشار الأفكار الراديكالية المتطرفة بين الشباب، وتزايد معدلات تدفق المتطوعين من الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى بؤر الصراعات الأهلية في الإقليم، وعودتهم مرة أخرى لبلادهم، في ظل سيولة حدودية غير معتادة، ومن ثم برز اتجاه صاعد لدى تلك الدول نحو صياغة نماذج جديدة من برامج الإرشاد الفكري ومعالجة التطرف تتقارب في غاياتها وتوجهاتها مع نظيرتها في بعض الدول العربية، وإن كانت توظف آليات مختلفة في التعامل مع معتنقي التوجهات المتطرفة.
تطبيقات متعددة:
أدى تصاعد تدفقات المقاتلين الأجانب من الدول الأوروبية للانضمام للتنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق والصومال واليمن إلى تبني تلك الدول إجراءات احترازية لمواجهة انتشار المعتقدات المتطرفة بين الشباب، وهو ما يمكن اعتباره اتجاهًا عالميًّا صاعدًا نتج عن تفاعلات إقليمية دافعة، حيث تبنت الدنمارك برنامجًا لإعادة تأهيل المقاتلين المتطرفين العائدين من سوريا من خلال توفير استشارات نفسية مجانية، بالتوازي مع توفير وظائف لهم، وفرص دراسية بالمدارس والجامعات، على الرغم مما يثيره هذا البرنامج من معارضة واسعة النطاق لدى الأحزاب اليمينية، حيث أكدت ماري كراروب النائبة عن حزب الشعب بالبرلمان، في 20 أكتوبر 2014، أن هذا النهج يعتبر مفرطًا في اللين في التعامل مع التهديدات المحتملة، ومن غير المرجح أن يؤدي لإدماج المقاتلين المتطرفين في المجتمع الدنماركي بصورة كاملة.
في السياق ذاته، أعلن المدعي العام الأمريكي إريك هولدر، في 15 سبتمبر 2014، عن وضع وزارة العدل الأمريكية برنامجًا لمكافحة انتشار الأفكار المتطرفة، والتعامل الاستباقي مع تصاعد معدلات تجنيد الشباب لصالح التنظيمات المتطرفة من خلال التأهيل النفسي والرعاية النفسية والاجتماعية والدينية للفئات المُحتمل انضمامها للتنظيمات الإرهابية، وفي هذا الصدد بدأت برامج التأهيل سالفة الذكر على نطاق ضيق في مدينة مينيابوليس التي التحق بعض شباب المسلمين فيها بحركة “الشباب” الصومالية وتنظيم “داعش”.
كما تبنت بلجيكا نموذجًا مشابهًا يقوم على الاعتماد على علم النفس في تحديد دوافع الانضمام للتنظيمات الإرهابية عبر إخضاع العائدين من سوريا لمتابعة نفسية واجتماعية لتحديد المحفزات الدافعة لتبني التوجهات الراديكالية والخطاب العقائدي الذي تتبعه التنظيمات الإرهابية في اجتذاب كوادر جديدة من بين الشباب، وتوازى ذلك مع منع الأئمة المتطرفين من دخول أراضي الدولة البلجيكية على غرار منع السلطات البلجيكية زيارة الداعية الكويتي الداعم لجماعة “لإخوان المسلمين” طارق سويدان، في 4 نوفمبر 2014، وهو ما سبقه بدء محاكمة أعضاء تنظيم “الشريعة من أجل بلجيكا”، في 30 سبتمبر، والمتهمين بتجنيد عدد من الشباب البلجيكيين للقتال في صفوف “داعش” و”جبهة النصرة”.
وعلى الصعيد ذاته، تبنت فرنسا برنامجًا لمكافحة التطرف، في أكتوبر 2013، يقوم على إطلاق حملات توعية لتشجيع الآباء والأمهات على الإبلاغ عن أى تحول في سلوكيات ومعتقدات أبنائهم، ومنع هجرة الأبناء القصر دون موافقة أولياء أمورهم، واختراق ومنع المواقع الراديكالية التي تقوم ببث المعتقدات التكفيرية واستقطاب الشباب للقتال في سوريا والعراق، وتوازى ذلك مع تأسيس ألمانيا مراكز اتصال لتقديم المشورة للأُسر في حالة ظهور بوادر للتطرف الديني على أبنائهم، وتقديم التوعية النفسية والاجتماعية والدينية للشباب المُحتمل تجنيدهم في صفوف التنظيمات الإرهابية.
محددات الفاعلية:
على الرغم من التقارب بين برامج المناصحة والتوعية التي تتبناها الدول العربية ونظيرتها المتبعة في الدول الغربية وسعي الأخيرة للإفادة من التجارب العربية الرائدة في هذا الصدد، إلا أن التجارب الغربية اتسمت بعدة خصائص أخرى، يتمثل أهمها فيما يلي:
1-استباق التهديد: اعتمدت أغلب برامج المناصحة الغربية على التصدي للأفكار الراديكالية لدى فئات الشباب المُحتمل انضمامهم للتنظيمات الإرهابية بهدف إعاقة تحول التوجهات العقيدية المتطرفة إلى أعمال عنف وعمليات إرهابية، واستباق انضمام الشباب المستهدف للتنظيمات التكفيرية.
2-دقة الاستهداف: تتجنب برامج المناصحة الأوروبية إهدار الموارد في برامج التوعية العامة والإعلامية واسعة النطاق التي تستهدف جمهور الشباب بصفة عامة دون تحديد، حيث تعكف المؤسسات الأمنية على دراسة الفئات المُحتمل تجنيدها من جانب التنظيمات الإرهابية، ومناطق تمركزها، والسياقات الاجتماعية والبيئية المحيطة، ومن ثمَّ تقتصر حملات التوعية على النطاق الجغرافي المستهدف، أو الأفراد الذين تعتبرهم السلطات الأمنية مرشحين مُحتملين للانضمام للتنظيمات الإرهابية.
3-تصنيف العائدين: تقوم سياسة بعض الدول الغربية التي تقبل عودة المقاتلين المتطرفين من سوريا لأراضيها على التعامل الانتقائي مع حالات العودة وفق مدى تغلغل المعتقدات المتطرفة لدى كل منهم، وقابليتهم للمناصحة، وقبول الاندماج في المجتمع، والتهديدات المُحتملة من لجوء أى منهم لتشكيل خلايا إرهابية نائمة، أو تنفيذ عمليات إرهابية داخل الدولة، ويسبق ذلك إعداد قاعدة بيانات عن الشباب المنضمين للتنظيمات الإرهابية في دول الإقليم، ومدى انخراطهم في العمليات القتالية التي تقوم بها تلك التنظيمات، وارتكابهم جرائم حرب وانتهاكات بحق المدنيين في بؤر الصراعات الأهلية بالإقليم.
4-الاحتواء الافتراضي: تحرص الدول الأوروبية المختلفة على إغلاق المنصات الإعلامية الافتراضية للتنظيمات الإرهابية، وتضييق قنوات نقل الأفكار للشباب من خلال إغلاق مواقع التنظيمات المتعاطفة والمؤيدة للإرهاب، فضلا عن رقابة شبكات التواصل الاجتماعي لتتبع الاتصالات بين المتطوعين المحتملين والتنظيمات الإرهابية، بهدف التواصل مع ذويهم، ومنعهم من الانضمام لتلك التنظيمات. ويتوازى ذلك مع إغلاق المؤسسات الدينية واستهداف الأئمة المتطرفين الذين يروجون المعتقدات التكفيرية.
5-رصد الممارسات الإرهابية: تركز استراتيجية الدعاية المضادة التي تتبعها البرامج الأوروبية على استعراض الممارسات الإجرامية غير الإنسانية لـ”داعش”، خاصة في تعامل عناصره مع المدنيين، ومدى تعارضها مع الفطرة الإنسانية، بالتوازي مع توظيف دوائر الانتماء الاجتماعي مثل الأسرة والمؤسسات التعليمية وجماعات الرفاق في التأثير على توجهات الفرد.
وإجمالا، على الرغم من تعدد أنماط ونماذج المناصحة الفكرية على المستويين الإقليمي والعالمي، فإن بعضها يواجه مشكلة استمرار تدفق المقاتلين الأجانب لبؤر الصراعات الإقليمية، وتمكن التنظيمات الإرهابية من تجاوز تدابير الوقاية الفكرية، وهو ما يرجح ضرورة مراعاة خصوصية السياق وصياغة برامج للأمن الفكري تتناسب مع الأوضاع المجتمعية والاقتصادية السائدة في الدولة، والاعتماد على الجمع بين التدابير الأمنية وآليات الأمن الفكري لمواجهة التهديدات الإرهابية.
المكز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية
http://goo.gl/UJxCwI
الكلمات الدلالية :الارهاب ،التطرف الفكري،الصراعات الأهلية،داعش،سوريا،العراق،الولايات المتحدة،الدول الاوروبية.