العراق الذي استضاف قمة «التعاون والشراكة» قبل أيام هو بالتأكيد غير العراق الذي استضاف القمة العربية في 2012. أشياءُ كثيرة تغيَّرت في العراق وحوله وفي المشهد الدولي أيضاً. لكن أبرزَ ما تغيَّر في بغداد هو انطلاق عملية هادئة وجريئة تهدف إلى إعادة العراق إلى العراق. وشاءت الصدفة أن تنعقد القمة في بغداد فيما تسابق الولايات المتحدة الأمريكية الوقت للخروج من قفص مطار كابل، ما أكدَ الحاجة إلى تبريد التشاحن الإقليمي.
وتمكن العراق من تحويل «مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون»، إلى نقطة توازن في محيط إقليمي ومشهد عالمي متوتر، وهو أمر يمكن أن يعزى، إلى حد ما، إلى رغبة أطراف إقليمية متصارعة في فسحة تهدئة بعد وصول الصراع الإقليمي إلى ذرى لم تشهدها دول الخليج العربي والإقليم من قبل.
ومنذ وصوله إلى الحكم، يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي أن يرسم صورة مختلفة لنفسه عن سابقيه. من الواضح أنه يسعى إلى إقامة توازن في علاقات العراق الخارجية للتفلت، ولو نسبياً، من النفوذ الإيراني الطاغي، بمد الجسور مع الدول العربية. فكانت القمة الثلاثية مع مصر والأردن خطوة أولى على هذا الطريق. وها هي قمة بغداد توسع دائرة المشاركة لتصبح 9 دول، بينها فرنسا التي شارك رئيسها ماكرون شخصياً في الاجتماع.
وكان الحضور السعودي والإيراني، عبر وزيري خارجيتهما فيصل بن فرحان وحسين أمير عبد اللهيان، إشارة أيضا إلى رغبة متزايدة لدى الطرفين في إيجاد خطوط للقاء، وقد أشار وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى أن «اللقاءات السعودية الإيرانية مستمرة» وأنها «بدأت من بغداد» كما حصل لقاء بين حاكم دبي ووزير الخارجية الإيراني.
ولعل الهدف من إقامة مؤتمر بغـداد هو في معالجة الأزمة المستمرة التي حلت على البلد، من خلال دعم استقلال العراق لاستعادة وتعزيز دوره الإقليمي، وإعادة دورة التاريخي لمعالجة الأزمات التي تعصف بالمنطقة، وصولا إلى تخفيف التوترات في منطقة الشرق الأوسط، والتأكيد على دوره كوسيط وشريك لعملية توافق إقليمي بين الدول المشاركة في المؤتمر، إلا أن الإشكالية في الوصول إلى نتائج مرضية للوفود المشاركة في هذا المؤتمر.
لا شك في أن مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة يشكل خطوة إيجابية مهمة في الاتجاه الصحيح نحو تصويب مسار العلاقات العربية والاقليمية في محاولة كانت العراق هي المبادرة اليها لتنقية اجواء تلك العلاقات من التوترات الكثيرة التي شابتها وافسدتها طيلة السنوات الماضية ودمرت الكثير في طريقها مما دفعت المنطقة كلها ثمنه غاليا من امنها واستقرارها ومقدراتها ومن علاقات حسن الجوار بين شعوبها.. …
علي انه ما يزال هناك العديد من الملفات المهمة والشائكة والمعقدة َوالمتشابكة التي يحتاج التغلب عليها الي بذل جهود دبلوماسية دؤوبة ومضنية من قبل كافة الاطراف اذا ما كان لهذه المبادرة السياسية العراقية الاخيرة ان تثمر النتائج المرجوة منها علي خير وجه.. فالتحديات الراهنة غير مسبوقة في فظاعة اخطارها وفي مستوي تعقيدها وتداخلها ، وسوف يحتاج التعامل الناجح معها الي طاقة هائلة من الجهد والصبر وقوة الاعصاب..وهذه هي مسئولية الجميع بلا استثناء..وهو امر لا خلاف عليه فيما اعتقد..
ومن ثم، فانه يصبح من السابق لأوانه الحكم علي مدي ما حققه مؤتمر بغداد من تقدم او من انجاز حقيقي في هذا المضمار الصعب بالنظر الي ان المحاولة ما تزال في بدايتها ولان الامر كله يبقي رهنا بترجمة اعلانات النوايا الطيبة التي استمعنا اليها في هذا المؤتمر من قبل كافة القادة والرؤساء الذين حضروا وشاركوا وعبروا عن تفاؤلهم بالمستقبل، الي خطط واستراتيجيات عمل مدروسة ومتوافق عليها من قبل الجميع ولتجد بعدها طريقها الي التنفيذ الفعلي الذي تتوفر له كل الامكانات المناسبة .وبدون ذلك يبقي مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة مجرد احتفالية اخري سوف تتجاوزها الاحداث ويطويها النسيان بعد حين ولتعود الامور بعده الي سيرتها الاولي من التوتر وسوء العلاقات وتدهور الاوضاع..وسوف نبقي في الانتظار لنري كيف وفي اي اتجاه سوف تتحرك مسارات الاحداث في هذه المنطقة خلال الايام المقبلة وبما يكفي للحكم عليها بصورة اكثر واقعية مما قد تبدو عليه الآن.
وفي المؤتمر، لقد كانت ملامح «العراق الجديد» واضحة في خطب برهم صالح ومصطفى الكاظمي وتصريحاته. الدولة. الدستور. المؤسسات. احترام إرادة الناخبين. وسيادة العراق. ورفضه أن يكون ساحة لحروب الآخرين. ورفضه أن يكونَ مصدر تهديدات لجيرانه. ورفضه الانزلاق إلى المحاور. ورغبة العراق في بناء الجسور في كل الاتجاهات. وأن يكونَ أرضَ حوارٍ لا مسرحَ صِدامٍ.
وتمكن العراق بفضل دبلوماسية رئيس وزرائه مصطفى الكاظمي من جمع خصوم تحت سقف واحد لتشجيعهم على التحاور كي يكون متنافسين لا أعداء. وأتاح المناخ الفرصة للقاءات عربية – عربية كانت تبدو متعذرة قبل عام. وكانت بغداد سجلت نقطة في دبلوماسية التسهيل حين ساعدت على انعقاد اتصالات سعودية – إيرانية واستضافتها.
ولعل أهم ما يسعى إليه مصطفى الكاظمي أن عودة العراق العراقي حقٌ لأبنائه ومكسبٌ لأمته العربية والإسلامية. والأكيد أن عودة العراق إلى دوره تعيد قدراً من التوازن الذي اختل في غيابه.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية