التصريحات التصعيدية التي تبناها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون تجاه الفساد يبدو أنها لا تعدو أن تكون سوى حبر على ورق، وأن الحكومة تعدّ مشروعا يهدف إلى المصالحة مع متهمين بالفساد من أجل إعادة أموالهم مقابل ترتيبات وصيغ للعفو تحت شعار “الحرية مقابل المال”.
الجزائر – تتجه الحكومة الجزائرية إلى ترتيب صفقة تستهدف استرجاع الأموال المنهوبة على قاعدة “المال مقابل الحرية” يتم خلالها استعادة الأموال المذكورة مقابل حصول أصحابها على الحرية أو تخفيف التدابير القضائية المتخذة ضدهم، ليكون بذلك أول انحناء للسلطة أمام سطوة رموز المال الفاسدين بسبب الحاجة الماسة إليها في ظل الأوضاع المأزومة في البلاد، وصعوبة تحصيلها وفق التدابير العادية، رغم أن ذلك كان من ضمن التعهدات التي قطعها الرئيس عبدالمجيد تبون على نفسه خلال حملته الانتخابية.
وذكرت تقارير محلية بأن برنامج الحكومة الذي سيعرض على البرلمان في دورته الأولى، سيضع الترتيبات اللازمة من أجل إيجاد آليات ودية مرنة تسمح للحكومة باسترجاع الأموال المنهوبة مقابل حصول أصحابها على الحرية أو الإجراءات المخففة، مما يسمح للسلطة بربح الكثير من الوقت في العملية المعقدة قانونيا ودبلوماسيا.
وباستثناء بعض الممتلكات والعقارات المملوكة لرجال مال وأعمال يتواجدون في السجن بسبب ضلوعهم في ملفات فساد التي تم تأميمها من طرف الحكومة، فإن الحكومة الجزائرية فشلت إلى حد الآن في استعادة الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، رغم أنها كانت تمثل إحدى التعهدات التي قطعها الرئيس عبدالمجيد تبون على نفسه خلال الحملة الانتخابية.
عبدالعزيز بلعيد يحث على تسوية ودية بين الحكومة ورجال المال الفاسدين
وفيما تحدثت أرقام صادرة عن القضاء الجزائري عن حجز ما يعادل نحو 800 مليون دولار، إلا أن الرقم يبقى رمزيا مقارنة بحجم الأموال المهربة إلى الخارج، والتي قدرها الرئيس تبون نفسه بأكثر من عشرة مليارات دولار، بينما كان كتاب صدر في فرنسا العام 2015 أشار إلى تحويل 50 مليار دولار من الجزائر إلى فرنسا منذ تولي الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة سدة الحكم.
وتحدثت التقارير المذكورة عن 11 وجهة للأموال الجزائرية المنهوبة، منها عواصم أوروبية وعربية وأميركية وجنان ضريبية، لكنه منذ تنحي نظام الرئيس السابق لم تقدم أي إحصاءات رسمية حول الموضوع، ويبقى الرئيس تبون يحتفظ بتصريحه “أعلم كم حجمها وأين تتواجد”، إلا أنه رغم مرور أكثر من عام ونصف على انتخابه لم يستجد أي شيء في المسألة.
وكانت العديد من الأوساط السياسية في الجزائر كما هو الشأن بالنسبة إلى رئيس حزب جبهة المستقبل عبدالعزيز بلعيد قد أعلن صراحة عن ضرورة الذهاب إلى تسوية ودية بين الحكومة ورجال المال الفاسدين، لأن حاجة البلاد إلى المال تتخطى حاجز الإجراءات التشريعية والدبلوماسية الدولية، وأن الجدوى السياسية تتمثل في استرجاع تلك الأموال بدل تطبيق أقسى العقوبات على الفاسدين.
وهي المقاربة التي طرحت في الشهور الأولى لحملة توقيف العديد من رجال المال والأعمال المقربين من نظام بوتفليقة، غير أن الأجواء السياسية لم تكن تسمح بذلك، حيث كان الحراك في ذروة فورته، كما كانت السلطة تروج لخطاب الإصلاح ومحاربة الفساد من أجل امتصاص ثورة الشارع.
وتسرب حينها عن رجل الأعمال المسجون علي حداد “استعداده للتنازل عن جميع ممتلكاته وأمواله وعقاراته مقابل الحصول على حريته”، إلا أن الطرح الذي قدمه فريق دفاعه لم يحظ بالتفاعل الإيجابي من طرف السلطة آنذاك.
ويبدو أن إكراهات الأزمة الاقتصادية وتداعيات الجائحة الصحية على الجبهتين الاقتصادية والاجتماعية المحليتين تضغط على الحكومة باتجاه وضع قواعد تشريعية لتسويات ودية بينها وبين رجال المال المسجونين، لكن ذلك يضعها أمام ضريبة سياسية ثقيلة أمام الرأي العام الداخلي، فهو إلى جانب أنه يعزز الشكوك حول تصالح أجنحة النظام على حساب مطالب التغيير السياسي في البلاد، يجعل السلطة تنحني أمام سطوة المال، وتنكث عهودها السابقة للإصلاح ومحاربة الفساد والقطع مع المرحلة التي استنزفت 1200 مليار دولار بين سنتي 2000 و2019، الأمر الذي سيعمق الفجوة بينها وبين الشارع ويضعها في موقع لا يختلف عن موقع سلطة الرئيس السابق بوتفليقة.
إكراهات الأزمة الاقتصادية وتداعيات الجائحة الصحية تضغط على الحكومة باتجاه وضع قواعد تشريعية لتسويات ودية بينها وبين رجال المال المسجونين
وينتظر أن يثير المشروع المذكور جدلا صاخبا داخل أروقة البرلمان والدوائر السياسية رغم أن الهيئة التشريعية الجديدة لا تحتوي على كتلة معارضة صريحة، وكل مكوناتها هي بين داعم للسلطة أو مقرب منها، ويطرح ذلك مجددا خلفيات عودة الحكومة إلى هذا النوع من التسوية بدل فرض الوعود التي قدمها رأس السلطة.
وتعتزم الحكومة في مخطط عملها الذي صادق عليه مجلس الوزراء وسيعرض قريبا على البرلمان قصد مناقشته وإثرائه، تكييف التشريع مع أحكام الدستور التي تكرس قيم الحرية والديمقراطية والمساواة وترسيخ دولة القانون، مع إرساء حوكمة متجددة ترتكز على الفعالية والشفافية.
ويتضمن مخطط عمل الحكومة عدة محاور إصلاحية في المجالات السياسية والقضائية والإعلامية والحريات الأساسية، رغم ما يثار في هذا الشأن من اشتداد ممارسات القمع والتضييق وتكميم الأفواه خلال السنوات الأخيرة، حيث تعرف الحريات السياسية والإعلامية تراجعا لافتا، بحسب معارضين وتقارير حقوقية دولية.
وينتظر أن تقدم الحكومة حزمة من التشريعات والنصوص الجديدة الناظمة لـ”حرية الاجتماع والتظاهر وترقية الحركة الجمعوية وممارسة نشاط الأحزاب السياسية وحرية الصحافة وأمن الأشخاص والممتلكات مع الأحكام الدستورية الجديدة، ومواصلة الإصلاح الشامل للعدالة من خلال ضمان استقلاليتها وعصرنتها ورقمنتها ومساواة الجميع أمامها ومراجعة نمط تسيير الجهات القضائية”.
وذكرت الوثيقة الأولية للمشروع أن “الحكومة ستعمل على مراجعة وتحيين جملة من النصوص التشريعية والتطبيقية عند الاقتضاء بهدف ترسيخ الممارسة الكاملة للحقوق والحريات، وإضفاء مرونة عميقة على الإطار القانوني بالنسبة إلى إنشاء الجمعيات والأحزاب السياسية، وممارسة حقوق الاجتماع والتظاهر السلمي، مع الامتثال الصارم للتشريع والتنظيم المعمول بهما”.
العرب