واشنطن – كشفت المواقف الصادرة عن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن غداة الانسحاب الفوضوي من أفغانستان عن نهج جديد للسياسة الخارجية للولايات المتحدة ستتخلى من خلاله عن دورها كشرطي للعالم من خلال الكف عن التدخل العسكري في دول أخرى.
وفي الواقع، هذا المنعطف في السياسة الأميركية كان قد ألمح إليه الرئيس الديمقراطي باراك أوباما وجاهر به الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب، غير أن الرئيس بايدن هو بالتأكيد من أعلنه بأوضح العبارات، إذ أكد هذا الأسبوع بمناسبة الانسحاب الأميركي من أفغانستان أن الولايات المتحدة لم تعد تريد لعب دور شرطي العالم.
وأوضح تشارلز فرانكلين الأستاذ في كلية ماركيت للحقوق “حان الوقت لوضع حد لهذه الحرب التي لا تنتهي (…) بايدن هو الذي قال ذلك، لكن كان من الممكن تماما أن يكون ترامب قاله”.
وعلق فرانكلين بذلك على خطاب ألقاه الرئيس الثلاثاء غداة إعلان رحيل آخر العسكريين الأميركيين من أفغانستان بعد حرب استمرت عشرين عاما.
عماد حرب: بايدن أغلق الباب على النزعة الأميركية للتدخل العسكري
ولم يعمد بايدن إلى التمويه بعد الفوضى التي واكبت الانسحاب وتسببت بتراجع التأييد له لدى الرأي العام، بل اغتنم الفرصة ليعرض بوضوح تام عقيدته الدولية.
وقال “المسألة لا تقتصر على أفغانستان. المطلوب وضع حد لحقبة من عمليات التدخل العسكري الكبرى الهادفة إلى إعادة بناء دول أخرى”.
واعتبر بنجامين حداد من المجلس الأطلسي للأبحاث في واشنطن في تغريدة أن هذا هو “أفضل تعبير عن رفض الأممية” الصادر عن رئيس أميركي “منذ عقود”.
ويردد بايدن باستمرار أن “الولايات المتحدة عادت”، لكنه هذه المرة شرح شروط عودتها.
وقال في مستهل حديثه إنه “علينا أن نتعلم من أخطائنا”.
وأضاف “علينا أن نحدد لأنفسنا مهمات ذات أهداف واضحة وواقعية، وليس أهدافا لن يكون بإمكاننا تحقيقها أبدا” و”علينا أن نركز جهودنا بوضوح على أمن الولايات المتحدة”.
ولبايدن خبرة طويلة في السياسة الخارجية كسيناتور أولا ثم كنائب للرئيس الأسبق باراك أوباما.
وأوباما هو الذي باشر بالحد من النزعة الأميركية للتدخلات الخارجية، لكن من دون أن يفصح عن ذلك بوضوح مثل بايدن.
وأعلن أوباما أن استخدام الرئيس السوري بشار الأسد أسلحة كيميائية في الحرب في بلاده سيكون “خطا أحمر” يستوجب ردا مسلحا، لكن حين تخطت دمشق هذا الخط في أغسطس 2013، عدل الرئيس الجمهوري في نهاية المطاف عن شن الضربات الجوية التي توعد بها.
ويرى بايدن أن الصراع بين الدول الديمقراطية والأنظمة المتسلطة مثل الصين يجب أن تكون له الأولوية على العمليات العسكرية الكبرى. وهو يعتبر أن على الديمقراطية أن تثبت قدرتها على التصدي للتحديات الكبرى مثل التغير المناخي والوباء بشكل أكثر فاعلية من الدكتاتوريات، مع تحقيق الازدهار للطبقات الوسطى في الوقت نفسه.
وفي هذا الإطار يعول بايدن على التحالفات في اختلاف جذري عن سلفه.
وانطلاقا من ذلك سينظم في الخريف قمة عبر الإنترنت لرؤساء دول وحكومات البلدان الديمقراطية، لم تكشف بعد قائمة المشاركين فيها.
وأوضح السفير الفرنسي السابق في واشنطن جيرار أرو في تغريدة أن الولايات المتحدة “لطالما ترددت بين عزل نفسها عن خطايا العالم ونشر حسنات نموذجها. واختارت منذ 1945 أن تكون المدافعة عن الديمقراطية ثم المبشرة بها. وهي الآن تعود إلى الديار”.
والحقيقة أن تفرد الولايات المتحدة في إدارة عملية الانسحاب من أفغانستان كان له وقع الصدمة على حلفائها، فيما أثار ارتياح بكين وموسكو إذ اعتبرتا الأمر بمثابة تحذير للدول التي راهنت بكل ما لديها على الدعم العسكري الأميركي.
وأوضحت الأستاذة في الجامعة الأميركية تريشيا بايكن “يبدو أن هناك قدرا من الإحباط” حتى لو أنه يصعب تحديد “مدى عمقه” بين حلفاء الولايات المتحدة بالنسبة إلى إدارة الانسحاب من أفغانستان.
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي أول من لمس هذا التغير في السياسة الأميركية الدولية الأربعاء غداة خطاب بايدن، إذ جدد له الرئيس الأميركي وعده بمساعدته بوجه “العدوان” الروسي في القرم من خلال تزويده بالمعدات العسكرية، لكنه لم يشرع أبواب الحلف الأطلسي لأوكرانيا الطامحة للانضمام إليه.
كما أن بايدن لم يتراجع بالنسبة إلى مشروع “نورد ستريم 2″، خط أنابيب الغاز الروسي الذي يثير مخاوف كييف، فاختار البيت الأبيض سلوك النهج الدبلوماسي حيال هذا الملف الحساس عوضا عن فرض عقوبات.
وخارج أوروبا كتب عماد حرب مدير الأبحاث والتحليلات في المركز العربي في واشنطن في مدونة إلكترونية أن جو بايدن “قد يكون أغلق الباب نهائيا على النزعة الأميركية للتدخل عسكريا في الشرق الأدنى والأوسط على نطاق واسع”.
وفي غياب دعم عسكري أميركي مضمون، قد تعمد دول المنطقة إلى إبداء “أقصى درجات ضبط النفس” في حين أنها تميل عادة إلى التصدي لإيران ورفع النبرة.
العرب