يوم الثالث من شهر سبتمبر الحالي، انتشلت طواقم الدفاع المدني في قطاع غزة جثامين ثلاثة عمال فلسطينيين من نفق على الحدود المصرية مع غزة كانوا يبحثون عن خلاص لأوضاعهم الإنسانية الصعبة، لكنهم تعرضوا للرش بالغاز من قبل قوات حرس الحدود المصرية، فقضوا داخل النفق. وقد أصدرت القوى الوطنية وفصائل المقاومة بيانات عديدة تدين مثل هذا العمل لثلاثة أبرياء كانوا «يبحثون عن قوت يومهم ولقمة أبنائهم وأهلهم» كما جاء في بيان لجنة القوى الوطنية والإسلامية في غزة.
في السادس من الشهر نفسه تمكن ستة أسرى فلسطينيين من المحكومين بالعديد من المؤبدات، الهرب من داخل سجن «جلبوع» في أراضي بيسان، أخطر سجون الكيان الصهيوني وأكثرها تحصينا، والمسمى «خزنة» لاحتوائه أهم المعتقلين وأكثرهم إيلاما للكيان. تمكنوا بكل مهارة وصبر من حفر نفق على مدى ما يزيد عن عام كامل بأدواتهم البسيطة كالملاعق، ثم تمكنوا من التخلص من كميات التراب وفتح مخرج على بعد أربعين مترا والتسلل منه، والسير ثلاثة كيلومترات ثم تبديل ملابسهم وشراء بعض من احتياجاتهم العاجلة، والاستحمام على مهل ثم التفرق.
ولغاية كتابة هذا المقال لم يعثر لهم على أثر، علما أن الكيان الصهيوني نشر آلاف الجنود وكتائب الشرطة، وجيشا من الأجهزة الأمنية المختلفة، وكلاب الأثر، وشغّل كل عملائه بدون أي نجاح. إنها الإرادة الحديدية التي تصنع المعجزات. إنها العزيمة التي لا تنكسر. إنه الإبداع في المقاومة، التي تكسر ظهر العدو وتدوس على غطرسته، وتزرع في قلبه الخوف من هزيمة محققة بعد التخلص من قيود أوسلو والمتمسكين به. تلك الساعة آتية لا ريب فيها.
استطاعت المقاومة أن تجدع أنف الكيان وتعيد تأكيد مقولة إن الحقوق لا تعود إلا بالمقاومة بكل أشكالها، وإبداعات عقول أبطالها
سلاح الأنفاق في النضال الفلسطيني
هذه العملية المعجزة ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها الفلسطينيون الأنفاق للتغلب على الصعاب، وكسر طوق الحصار، وإلحاق الأذى بالكيان الغاصب. فجل الشعب الفلسطيني في فلسطين، إما تحت الاحتلال المباشر أو الحصار المباشر، أو تحت نظام الفصل العنصري (الأبرثايد) أو كلها مجتمعة. وأكثر ما يتجسد الحصار البري والبحري والجوي في قطاع غزة، الذي لا تزيد مساحته كثيرا عن ملعب غولف أو مطار دولي. إنها عزيمة المحاصرين الذين لا يملكون إلا إرادة تفل الحديد وتنحت الصخر وتفتح نوافذ الأمل. ودعونا نتذاكر قليلا.
خطف جلعاد شاليط
عبر نفق على الحدود بين رفح والأرض الفلسطينية المغتصبة منذ عام 1948 قامت قوة من ثلاثة فصائل ليلة 25 يونيو 2006 بعملية شجاعة خلف لواء النخبة جفعاتي، فقتلوا جنديين وجرحوا خمسة وأسروا الجندي جلعاد شاليط، حيث تم تأمينه بسرعة خاطفة في مكان في غزة لأكثر من خمس سنوات، بدون أن يتمكن الكيان من العثور عليه لا عن طريق العمليات العسكرية الكثيرة، ولا عن طريق التكنولوجيا، ولا عن طريق العملاء. وقد جن جنون الكيان ومشّط المنطقة التي خطف منها عدة مرات بدون جدوى، ثم أوعز لعملائه بالبحث عن أي إشارة تدل على مكان وجوده، ثم أطلق عملية «أمطار الصيف» في يونيو، ثم عملية «غيوم الخريف» في شهر نوفمبر 2006 وارتكب الكيان من الجرائم والفظائع، عله يسترد هذا الجندي إلا أن كل المحاولات فشلت، وانتهى إلى أن ضرب الكيان رأسه في الحائط ولعق كبرياءه وقبل صاغرا المفاوضات مع حركة حماس لتبادل الأسرى بوساطة مصرية ألمانية، انتهت إلى تحرير أكثر من 1027 أسيرا فلسطينيا في أكتوبر 2011.
أنفاق غزة التجارية
بعد إطباق الحصار على غزة عام 2007، وبعدما أطلقت عليه سلطة أوسلو الانقلاب، وأنا أؤكد أنه انقلاب، لكن على نتائج الانتخابات الحرة والنزيهة، تعاونت السلطة مع الكيان، ومع السلطات المصرية آنذاك، لإحكام الحصار الشامل على قطاع غزة. قامت فصائل المقاومة بحفر مئات الأنفاق التي يبدأ أولها في القطاع وآخرها في أراضي سيناء المصرية. وتقول وزراة الدفاع الإسرائيلية إن الأنفاق ما بين غزة وسيناء موجودة منذ منتصف الثمانينيات، لكن عددها في ذلك الوقت كان لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة، وكانت بدائية جدا، تستخدم في تهريب المواد الممنوعة مثل السلاح والمخدرات، وتهريب الأشخاص المطلوبين لسلطات الاحتلال.
لكن ظاهرة الأنفاق التجارية التي أوجدت مصطلح «اقتصاد الأنفاق» بين عامي 2007 و2013 تضخم عددها حتى وصل إلى 1200 نفق تمتد تحت الشريط الحدودي بكامله، الذي يتراوح طوله 12 كيلومترا وعرضه 700 متر. وشملت الأنفاق أنواعا عديدة حسب الاحتياجات، فمنها ما كان للبضائع الصغيرة اليومية ومنها للقطع الكبيرة كقطع السيارات والحيوانات، وقطع الغيار والحبوب والمواد الكهربائية. وقد ساهمت تجارة الأنفاق في تخفيف تداعيات الحصار الشامل على سكان قطاع غزة، حيث وفّرت مئات السلع الأساسية مثل حليب الأطفال والمستلزمات المدرسية واحتياجات قطاع البناء، لكنها أيضا خلقت ظواهر وسلوكيات سلبية أهمها، إيجاد طبقة من الأثرياء الجدد تمكنوا من مراكمة ثروات ضخمة في وقت زمني قصير. فظهور هذه الطبقة في غزة أحدث تغييرات جوهرية في أنماط النشاط الاقتصادي، وتغييراً في منظومة القيم التي تحكم المجتمع. لقد تمكنت حركة حماس من جمع أموال طائلة بسبب اقتصاد الأنفاق، تم تحويل الجزء الأكبر منها إلى المجهود العسكري، ثم دخل على الخط الضباط المصريون من الجهة الأخرى وأصبحت المداخيل العالية تقسم بين الحركة والجيش المصري. ويبدو أن حكومة الرئيس مبارك تغاضت عن الموضوع، واعتبرته شيئا مفيدا يخفف الاحتقان في قطاع غزة من جهة، ويخفف انتقادات الجانب المصري واتهامة بالتعاون مع الكيان الصهيوني لإطباق الخناق على القطاع من جهة ثانية، كما أنه يدر دخلا كبيرا للجانب المصري، بدون أي ضرر أمني أو عسكري.
بدأ اقتصاد الأنفاق يتراجع عامي 2011 و 2012 حيث ظل معبر رفح مفتوحا بشكل أساسي، وكان إغلاقه الاستثناء وليس العكس. إلى أن حدث التغيير الجذري في مصر واستولى الجيش على السلطة، وكان من إنجازاته تدمير جميع الأنفاق وبناء خرسانات حديدية مسلحة على طول الحدود، وتجريف كل البيوت من الجانب المصري، وشق أنفاق ماء لمنع التسلل، فيما لو فشلت كل الترتيبات الأخرى. لقد نجح النظام المصري بعد عام 2013 من تحويل قطاع غزة حقيقة لا مجازا، إلى أكبر سجن آدمي لنحو مليوني إنسان، وتحول معبر رفح إلى مختبر إذلال للفلسطينيين قد يقضون أياما عديدة قبل أن يسمح لهم بالاجتياز. وقد يغلق المعبر لشهور متواصلة أو لممارسة الضغط على سلطات الأمر الواقع في غزة.
الأنفاق الدفاعية في حروب غزة
قال رئيس حماس السابق خالد مشعل، في مقابلة مع مجلة «فانيتي فير» الأمريكية (12 أكتوبر 2014) إن نظام الأنفاق الخاص بحماس هو هيكل دفاعي يهدف إلى وضع عقبات أمام ترسانة إسرائيل العسكرية القويّة، ومن أجلِ حماية الشعب الفلسطيني، والمشاركة في ضربات مُضادة ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي عندما تتعرض غزة لهجوم». لقد وجدت حركة حماس وبقية فصائل المقاومة الأخرى بعد عام 2007 أنها تحكم قطاع غزة فعلا، وتأكد لديها أن حكم غزة لن يكون نزهة، بل ستتبعه عمليات عسكرية وهجمات متكررة واجتياحات وقصف واغتيالات. فبدأت حركات المقاومة، خاصة حركة حماس، تعد نفسها للمواجهات. وبما أن قطاع غزة مكشوف تماما ولا جبال ولا غابات فيه، فلا مكان للاختباء والتضليل والتمويه أمام عيون قوة غاشمة مدعومة بالمنظومات الدفاعية للولايات المتحدة والدول الغربية في معظمها، تحول جوف الأرض تحت قطاع غزة إلى شبكة معقدة من الأنفاق المتطورة والمحصنة، التي تتشابك وتترابط، ولا يستطيع غريب الدار أن يعرف أولها من آخرها، وقد يزيد طولها عن 500 كلم. وقد ادعى الكيان أنه دمر في حرب 2014 نحو 32 نفقا منها 14 تدخل من تحت السياج إلى داخل الكيان. لقد ظن الكيان بعد تلك الحرب أنه قلّم أظافر المقاومة جيدا لسنوات طويلة، لتكون المفاجأة الكبرى في مواجهة «سيف القدس» في مايو الماضي، أن الأنفاق هذه تطورت كثيرا وحضنت في جوفها من الأسلحة المتطورة ما شكل مفاجأة صاعقة للكيان خلخلت توازنه. ليست المفاجأة فقط في عدد الصواريخ، بل في نوعيتها والقدرة على التكتم كل هذا الوقت عن حجم الترسانة ونوعية الأسلحة والطائرات المسيرة، وكميات الذخيرة، واستطاعت المقاومة أن تجدع أنف الكيان وتدمي مقلتيه، وتعيد التأكيد على مقولة إن الحقوق لا تعود إلا بالمقاومة والمقاومة فقط بكل أشكالها، وإبداعات عقول أبطالها. ألا يخجل حزب «الحياة مفاوضات» من العار الذي ألحقوه بأنفسهم أولا وبالشعب الفلسطيني والعرب وشرفاء العالم، وهم ما زالوا يرددون أكبر كذبة في العصر الحديث حول قيام الدولة الفلسطينية المستقلة والمترابطة والقابلة للحياة «شاء من شاء وأبى من أبى» حسب مقولات دعاة سلام الشجعان.
عبدالحميد صيام
القدس العربي