الحرب الباردة دفعت البعض في واشنطن إلى اعتبار نهوض الصين تهديدا لهيمنتها العالمية. في حين أن الصين تتشارك فرص التنمية مع دول عدة، من خلال توسيع الواردات والاستثمارات الأجنبية، وكذلك عبر مبادرة الحزام والطريق التي اقترحتها. وهي تساعد في بناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة، وحماية الحقوق التنموية للبلدان النامية، وهو ما لم تفعله أمريكا على مدى عقود من الهيمنة الأحادية على العالم.
احتواء الصين ليس خيارا سهلا بالنسبة للولايات المتحدة، هي حماقة اقتصادية خالصة بتعبير الاقتصادي الأمريكي فنسنت سميث. إنها سياسة تجارية بلا اتجاه، وحرب لن يكون فيها منتصر. وتنمرهم التجاري ضد العملاق الآسيوي يتعارض مع روح التجارة الحرة والأعراف الدولية، ويخاطر بإلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي، وهناك تعنت لدى صناع القرار السياسي في بعض الدول يجعلهم يتغافلون عن أن الاتفاقيات التجارية وإصلاح منظمة التجارة العالمية، أفضل من الحروب التجارية.. فمثل هذه الحروب سوف تؤدي إلى حالة من الركود، خاصة زمن الجائحة العالمية المستمرة، وتداعياتها على اقتصاد معظم الدول ضمن النظام الرأسمالي المتهالك، الذي كانت فيه إشارات السوق واضحة على الدوام.
لكن الحكومات لم تتدخل بشكل أكثر فعالية منذ بداية الجائحة، ولم تعمل على استشراف مثل هذه المخاطر، لأنه وبكل بساطة ليس هناك ربح في منع وقوع كارثة مستقبلية. فالفهم العلمي ليس كافيا، ويجب أن يكون هناك شخص ما يلتقط الكرة ويركض بها، بتعبير تشومسكي، لكن هذا الخيار ألغي بسبب أمراض النظام الاجتماعي والاقتصادي المعاصر. واليوم يتعرض النظام الليبرالي لضغوط شديدة، وهو يترنح مع أزمة الجائحة العالمية، رغم أن أذرع الأمن التعاوني والازدهار تحاول أن تظهر أنها مازالت قوية. ومن المرجح أن جائحة كورونا ستكون الحدث السياسي والاقتصادي الأهم الذي سيدشن معظم الاضطرابات الجيوسياسية المحتملة في العقد المقبل، وهي تهدد بالدخول إلى عالم أقل عولمة يعبر عن الانقسامات العالمية الجديدة والمتجددة.
تنمر أمريكا التجاري ضد الصين يتعارض مع روح التجارة الحرة والأعراف الدولية، ويخاطر بإلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي
دول أوروبية وآسيوية تشعر بالقلق من الانضمام إلى أمريكا في ما يشبه الحرب الباردة لاحتواء صعود الصين، لاسيما أن ذلك يعرض العلاقات التجارية المربحة للخطر، والعولمة التي صدّرت مقولات الانفتاح والتبادلية، عمقت فيما يبدو الانقسام الذي تدفع نحوه أنظمة معينة في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا ترغب في تراجع نفوذها العالمي، وتحكمها بالسوق والتجارة الدولية. وطفرة الاقتصاد والمال والبضائع، كان يُعتقد أنها وحّدت العالم، لكنها في الواقع خلقت فقط سوقا ضخمة، دون روح أو وعي أو معرفة، ونحن أصبحنا مجرد زبائن، ولسنا أفرادا في العائلة الإنسانية، كما أكد ادغار موران. والأمر لم يقتصر على ذلك، بل إن هذه الرأسمالية المتوحشة دمرت البيئة والديمقراطية والمساواة الاجتماعية. ويمكن ملاحظة هذه المفارقة على نطاق مصغر، عبر النظر في العلاقات الشخصية بين الناس، إذ إن تفشي الفيروس مثّل تحديا للأيديولوجيا الكامنة التي سيطرت على الحملات الانتخابية في السنوات الأخيرة، عندما شهدنا تكرار شعارات أنانية من قبيل «أمريكا أولا» «فرنسا أولا» «الإيطاليون أولا» و»البرازيل قبل كل شيء». وهي شعارات قدمت صورة مشوهة عن الإنسانية، وجعلت الأمر يبدو كما لو أن كل فرد يمثل جزيرة معزولة عن الآخرين. فرنسا وبريطانيا تصنفان مع الولايات المتحدة التي تبحث عن أعداء جدد بعد سقوط الإمبراطورية السوفييتية، لأن أمريكا بحاجة إلى الحرب، وبالتالي لإنتاج وبيع واستخدام الأسلحة، إذ يشكل المجمع الصناعي العسكري أساس هذا البلد، الذي لم يتجاوز عمره 3 قرون. وبتأكيد الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفراي، نحن نعلم لماذا ذهبت الولايات المتحدة إلى الحرب في أفغانستان والعراق وليبيا وجنوب الساحل الافريقي، هذه هي مصلحتها التجارية، لكن لماذا إذن تجد فرنسا نفسها في موقع مساعد للجيش الأمريكي، لأي فائدة؟ ما شرعيتها في قصف قرى الجبال الأفغانية، وتدمير العائلات والأطفال والنساء والشيوخ؟ من الواضح أنهم لا يتركون الدول الإسلامية التي لا تهددهم بشكل مباشر بسلام. فالغرب لا يهتم بحقوق الإنسان في البلدان الافريقية، وقد مضى نصف قرن منذ الاستعمار والاستعمار الجديد، وحقوق الإنسان هي أقل اهتمامات الحكام الغربيين، والفرنسيين تحديدا، في هذه القارة المستغلة، والحقيقة الواضحة هي أن الغرب موجود لسرقة الشعوب الافريقية بتواطؤ حكامها الفاسدين.
وسط تحول في هيكل الاقتصاد العالمي لصالح الرقمنة، تزايد الحديث عن انتقال القوة الاقتصادية من الغرب نحو الشرق. والاستثمارات الصينية الضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي بدأت تؤتي ثمارها بشكل واضح. وعندما تصبح التكنولوجيا في طليعة القطاعات المتأثرة، تتخذ الحكومات المخاوف الأمنية ذريعة لسن عقوبات اقتصادية، عبر فرض قيود على قطاع التكنولوجيا في الدول المنافسة في عصر باتت فيه الفروق بين القضايا الأمنية والاقتصادية أقل وضوحا. والحرب بين الولايات المتحدة والصين على تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات هي أوضح مثال، والساحة الكبرى للمعركة حاليا. وسلسلة العقوبات والقيود مصدرها عدم الثقة المتبادلة بشأن استخدام، أو سوء استخدام كلا الجانبين للتكنولوجيات الجديدة. والمواجهة بين العملاقين الأمريكي والصيني، أدت إلى نسف ما يسمى، تعددية الأطراف، وبروز الخطابات التي تخلط بين الشؤون الاقتصادية والسياسية، خاصة في فترة حكم دونالد ترامب الذي أخرج الخلاف من الغرف المغلقة إلى وسائل الإعلام. ومازالت الولايات المتحدة الأمريكية تشعر بأن نفوذها مهدد في ظل نمو الصين، وسعيها لقيادة الاقتصاد العالمي والمجال التكنولوجي. وإدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، لم تنجح في تحقيق طلاق تجاري بين واشنطن وبكين، وهناك اعتراف أمريكي بأن الصين تقترب من حسم حرب التكنولوجيا لصالحها، وليس أمام الرئيس الأمريكي جو بايدن سوى تعهد لفظي باستعادة الولايات المتحدة مكانتها في قيادة العالم، والدعوة إلى زيادة الإنفاق الفدرالي على البحث والتطوير، بما في ذلك رصد حوالي 300 مليار دولار للتركيز على التقنيات المتقدمة لتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة.، لكن احتواء الصين ليس أمرا يسهل المضي فيه بالنظر إلى الواقعية الاقتصادية، وحجم تمددها التجاري والاستثماري الواضح. فالصين تعد الآن أهم شريك تجاري لعدد أكبر من الدول مقارنة بالولايات المتحدة، ومحاولة تقليص جميع أشكال التجارة مع الصين ستكون مكلفة للغاية بالنسبة لواشنطن، لأن لديها أيضا تعاملات تجارية كثيفة مع بكين. وبالمحصلة، الحرب التجارية مع العملاق الآسيوي أضرت بالاقتصاد الأمريكي، وفشلت في تحقيق أهداف سياسية، وفي عالم اليوم الذي يشهد تغيرات معقدة، تتطلب معالجة العديد من المشكلات العالمية، مثل تغير المناخ أو الأوبئة، من الولايات المتحدة العمل مع الصين، وتجنب سوء التقدير بشأن النوايا الاستراتيجية لخدمة أهداف سياسية على حساب المجتمع الدولي الذي عليه الاختيار هو الآخر، كما أكد مسؤولون صينيون أكثر من مرة، بين التعاون والمواجهة، وبين التعددية والأحادية، وبين الانفتاح والعزلة. وفي هذه العملية تخضع الرؤية العالمية لكل الدول للاختبار.
لطفي العبيدي
القدس العربي