كان إطلاق النار لا يزال يتصاعد حول القصر الرئاسي في غينيا عندما بدأ الإحساس بالذعر بشأن مستقبل الثروات الطبيعية للبلاد.
وقال تقرير بصحيفة “واشنطن بوست” (Washington Post) إن غينيا -التي تقع في غرب أفريقيا- تمتلك أكبر احتياطيات العالم من مادة البوكسيت التي تعد مصدرا رئيسيا للألمنيوم المستخدم في صنع الرقائق وعلب الصودا والسيارات. وقد أصبحت الصخرة الحمراء رمزا للأمل واليأس في عهد الرئيس ألفا كوندي، الذي حوّل غينيا إلى مُصدِّر كبير قبل أن يطيح به انقلاب للجيش” الأحد قبل الماضي.
وأضاف التقرير أن بعض سكان غينيا تحسروا على ما اعتبروه تراجعا للديمقراطية بعيد الانقلاب، فيما احتفل آخرون بسقوط زعيم يقول منتقدوه إنه مكّن شركات التعدين الأجنبية من تدمير الأراضي الزراعية ومياه الشرب، وفق تعبير الصحيفة.
وتابع التقرير أن انقلاب غينيا هز عالم صناعة الألمنيوم، في وقت أشارت شركة استشارية بريطانية إلى أن أسعار شحنات البوكسيت الغينية إلى الصين -أكبر زبائنها- بلغت أعلى مستوى لها خلال 18 شهرا.
وأوضح التقرير أن شركة “روسال” (Rusal) الروسية -وهي واحدة من أكبر منتجي الألمنيوم في العالم- هددت بإجلاء عمالها من غينيا، مما تسبب في رفع أسعار الألمنيوم إلى أعلى مستوى لها منذ 10 سنوات.
ونقلت الصحيفة عن باحثين قولهم إن المستهلكين في شتى أنحاء العالم قد يشهدون هزة مالية إذا انقطع تدفق البوكسيت.
ووفق الصحيفة قال آلان كلارك -المحلل الأسترالي المختص في شؤون البوكسيت- “يمكن أن تتسبب حالة عدم اليقين في غينيا إلى ضغوط تتعلق بالتكلفة على قيمة أي مواد تحتوي على الألمنيوم الأساسي، مما يعني أن المستهلك سيدفع أكثر”.
غينيا الغنية بالبوكسيت
وتقول الصحيفة إنه عندما تولى كوندي الرئاسة في عام 2010، كان إنتاج غينيا من البوكسيت يمثل جزءا صغيرا من الإنتاج العالمي للمادة.
لكن بعد 11 عاما، ارتفعت حصة غينيا إلى 22% بفضل صفقة ضخمة أبرمها كوندي مع الصين.
وقد وافقت بكين في عام 2017 -وفق الصحيفة- على إقراض كوناكري 20 مليار دولار لبناء البنية التحتية التي كانت غينيا في أمس الحاجة إليها، خلال العقدين المقبلين مقابل امتيازات البوكسيت.
وبحسب الصحيفة تقوم الآن أكثر من 20 شركة دولية بالتعدين في البلاد، بما في ذلك شركات من الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا. ويمثل التعدين 35% من اقتصاد البلاد.
ووفق تقرير الصحيفة -الذي نشر قبل أسبوع- توجد أجمل الطرق في غينيا بالقرب من المناجم، فيما تشوب الحفرُ الطرقَ المعبدة في الأماكن الأخرى من البلاد، في وقت يقول فيه الباحثون إن البنية التحتية الأساسية الأخرى -كالمدارس والمستشفيات وشبكة الكهرباء- في حاجة ماسة إلى الإصلاح.
ونقلت الصحيفة عن تقرير حديث لـ”هيومن رايتس ووتش” (Human Rights Watch) أن التعدين يهدد آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية، وكذلك إمدادات المياه، في منطقة تعيش فيها معظم العائلات على الزراعة.
الصين وافقت في عام 2017 على إقراض غينيا 20 مليار دولار لبناء البنية التحتية التي كانت في أمس الحاجة إليها (غيتي)
معارضة
واستمر استخراج البوكسيت في غينيا على مدى عقود شهدت البلاد خلالها 3 انقلابات عسكرية. ويعبر سكان البلاد باستمرار عن معارضتهم لمشاريع استخراج البوكسيت.
وقد أقدمت نساء في إحدى مدن التعدين -قبل أسبوع من الانقلاب- على إغلاق خط سكة حديد يستخدم لنقل البوكسيت احتجاجا على المشروع، وفق تقرير صحيفة واشنطن بوست.
ونقلت الصحيفة عن أبو بكر صديقي مارا -الأمين العام للاتحاد العام لعمال غينيا والذي يمثل الآلاف من عمال المناجم- قوله إن “الناس يرون البوكسيت يمر (من أرضهم)، لكنهم لا يشعرون بفوائد (تعود عليهم من ذلك)”.
وقال مارا إن متوسط ما يجنيه العمال من استخراج المعدن من الصخور لا يتجاوز 5 دولارات يوميا، وغالبا ما يعملون في بيئات خطرة. ولا تخضع الشركات لرقابة ذات بال، وأحيانا تغيب الرقابة كليا، مما يسمح بحدوث انتهاكات لحقوق العمال.
وأضاف مارا إن “الشر الموجود في بلدنا يكمن في ضعف مؤسساتنا”.
مشاورات
وغدا الخميس، يلتقي العسكريون -الذين أطاحوا بالرئيس ألفا كوندي في الخامس من سبتمبر/أيلول الجاري- رؤساء شركات التعدين العاملة في غينيا ومن ثم جمعيات أصحاب العمل.
كما سيلتقون -بغد غد الجمعة- رؤساء المصارف والنقابات، ضمن سلسلة لقاءات تمهيدية لتشكيل الحكومة تبدأ باجتماعات مع القوى السياسية والمجتمع المدني، بحسب ما أورده تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية الأحد الماضي.
وقد أشار التقرير إلى أن غينيا من أغنى البلدان بخام البوكسيت الذي يستخدم في إنتاج الألمنيوم، وفيها مناجم لاستخراج الحديد والذهب والألماس، لكنّها إحدى أفقر دول العالم.
ولفت التقرير إلى أن الانقلاب أدى إلى ارتفاع سعر الألمنيوم في الأسواق إلى أعلى مستوياته منذ سنوات، في وقت سعى فيه المجلس العسكري إلى طمأنة شركاء غينيا أن الأنشطة لن تتوقف وأن التعهّدات ستحترم.
وتطالب المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بـ”عودة فورية إلى النظام الدستوري”، وقد علّقت عضوية غينيا في هيئاتها.
صراع الصين وفرنسا وإسرائيل
يقول تقرير تحليلي بوكالة الأناضول إن غينيا لا تملك ثاني أكبر احتياطي من البوكسيت في العالم والذي يستخرج منه الألمنيوم، بل لديها أحد أكبر مناجم الحديد عالميا، ويبلغ احتياطاته 2.4 مليار طن ولا يتفوق عليه أفريقيا سوى منجم غار جبيلات بالجزائر (3.5 مليارات طن).
هذه الإمكانيات المنجمية الهائلة في بلد لا تتجاوز مساحته 246 ألف كيلومترا مربعا، دفعت البعض لتلقيبه بـ”المعجزة الجيولوجية”، وهذا ما يفسر -وفق التقرير- التنافس بين عدة أطراف -وعلى رأسها فرنسا وإسرائيل والصين- على حقوق استغلال منجم سيماندو لخام الحديد، الواقع في الجنوب الشرقي لغينيا على الحدود مع سيراليون.
فقد تمكن الملياردير الإسرائيلي الحامل للجنسية الفرنسية بني شتاينميتز؛ من إزاحة المجموعة الأنغلو-أسترالية من المنافسة، واستحوذ على حقوق استغلال منجم سيماندو ما بين عامي 2005 و2010.
لكن انتخاب ألفا كوندي رئيسا للبلاد لأول مرة في 2010، دفعه لتجميد رخص الاستغلال الممنوحة للملياردير الفرانكو-إسرائيلي، بسبب شبهة فساد.
وفي 2019 اتفق نظام كوندي مع الملياردير “بيني” على التخلي عن المشروع مقابل إسقاط تهم الفساد عنه، إلا أن الادعاء السويسري واصل متابعته قضائيا.
وفي ظل هذا الفراغ -يؤكد التقرير التحليلي- استغلت مجموعة شركات صينية الفرصة، واقتحمت السوق الغينية بثقلها، وحصلت على رخص لاستغلال بعض أجزاء منجم سيماندو الذي تقدر تكلفته الأولية بنحو 9 مليارات يورو، تتضمن أيضا إنشاء سكة حديدية لنقل خام الحديد من المنجم إلى ميناء سيتم إنجازه أيضا.
ويقول التقرير إن الصين عززت نفوذها في غينيا بدعم من كوندي الذي فتح أبواب بلاده للاستثمارات الصينية، مما أثار حفيظة فرنسا، التي ما زالت تهيمن على البلاد سياسيا وعسكريا، لكنها تخسر أمام بكين اقتصاديا.
فمنجم سيماندو يمثل أهمية إستراتيجية لعدة قوى عالمية، ومعركة اقتصادية تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لمنع الصين من التمدد في أفريقيا.
وتستورد الصين مليار طن من الحديد الخام، ثلثاه من أستراليا، وإن استغلال حديد غينيا سيؤدي إلى تخلص بيكين من التبعية لحديد أستراليا، ويخفض من أسعاره الدولية، مما يقلص تكلفة المنتجات الصينية ويقوي من تنافسيتها في الأسواق الدولية، حسب تقرير وكالة الأناضول.
ويضيف التقرير أن فرنسا -ومن ورائها الولايات المتحدة- تحاول حرمان الصين من هذه الجائزة، لذلك فإن الانقلاب الذي أطاح بكوندي -الصديق الوفي لبكين- يصب في مصلحة باريس وواشنطن. وكما أدى صعود كوندي إلى السلطة في الإطاحة بالاستثمارات الفرنسية الإسرائيلية في سيماندو، فإن الانقلاب عليه قد يطيح أيضا بالاستثمارات الصينية في مناجم الحديد بالبلاد، وهذا ما تأمله باريس.
المصدر : الفرنسية + الواشنطن بوست + وكالة الأناضول