بغداد- ما تزال ساحة النسور في بغداد شاهدة على المجزرة الدموية التي ارتكبتها عناصر من شركة “بلاك ووتر” الأمنية الأميركية، وذلك صبيحة 16 سبتمبر/أيلول 2007، حيث ذهب ضحيتها 14 مدنيا وأصيب نحو 20 آخرين بجروح.
ويرى مراقبون أن تعامل المحاكم الأميركية مع الحادثة، بدءا من الأحكام المخففة وانتهاء بالعفو الرئاسي الذي أصدره الرئيس السابق دونالد ترامب، لا يقل فظاعة عن المجزرة ذاتها.في ذكراها 14.. يوم ارتكب بلاك ووتر الأميركية مجزرة ساحة النسور في بغداد
ملابسات المجزرة
وقعت مجزرة ساحة النسور في قلب بغداد في جانب الكرخ، وهي من الساحات المهمة والكبيرة لكونها مفترق طرق لمناطق مهمة بالعاصمة، بحسب المحلل السياسي عبد الجبار المشهداني.
ويبين المشهداني للجزيرة نت بأن الجهات المتورطة في وقتها “بلاك ووتر” وشركة حماية أميركية أخرى، حيث وقعت الكثير من هذه الحوادث المشابهة التي تستهدف المدنيين بإطلاق النار من كثير من الدوريات.
وعن أسباب وقوع الحادثة، يعزوها المشهداني إلى أن الجيش الأميركي كان مستفزا دائما ويشعر بالخوف الشديد نتيجة ضربات فصائل المقاومة العراقية، وكان في حالة خوف وحذر شديد مما أدى إلى ردود فعل سريعة وغير منضبطة، ويمكن القول إن تمتع القوات الأميركية والعاملين معها بالحصانة القانونية جعلهم يتصرفون بدون رادع.
ويلفت إلى أن العراق خسر الكثير من المدنيين رجال ونساء ومن الأطفال، بسبب استهتار بعض جنود القطاعات الأميركية خلال تلك السنوات.
وتعد جريمة بلاك بوتر واحدة من الجرائم التي تمثل نتاج السياسة الأميركية والاستهتار بحقوق العراقيين، وهي بعيدة عن حقوق الإنسان التي تذرعوا بها لغزو العراق واستباحة أراضيه، بحسب الأكاديمي والباحث السياسي الدكتور فاضل البدراني.
ويروي البدراني للجزيرة نت قصة تعرضه لإطلاق نار عده مرات من قبل عناصر “بلاك ووتر” ونجاته بأعجوبة، مؤكدا أن المواطن بات يخشى “بلاك ووتر” أكثر حتى من القوات الخاصة الأميركية، بسبب ممارستهم عمليات القتل في العديد من المناطق وأنهم كانوا يرقصون على جثة القتيل بكل استهتار.
ويتحدث عن آثار مؤلمة تركتها جرائم “بلاك ووتر” وغيرها من الشركات الأمنية، حيث تبقى عوائل الضحايا تتألم على فقيدها وتستمر الآثار السلبية تلاحق اليتامى، فما حدث في ساحة النسور واحدة من آلاف الحوادث التي ارتكبتها القوات “القذرة”. ويدعو البدراني القضاء والدبلوماسية العراقية لعدم ترك حقوق العراقيين سواء كانوا ضحايا جرائم بلاك ووتر أو غيرهم.
ويقول المدير التنفيذي لمركز جنيف الدولي للعدالة ناجي حرج إنه رغم الضغوط الكثيرة التي بذلوها ضمن مجموعة من المنظمات غير الحكومية الأميركية والأوربية، إلا أن السلطات الأميركية كانت تضع العراقيل تلو العراقيل لمنع إجراء محاكمات لجنودها ولهذه الشركات، رغم علمها الكامل بالانتهاكات الجسيمة والمروعة التي ارتكبت في العراق.
ويضيف حرج للجزيرة نت أنه وبعد توثيق مجزرة ساحة النسور من جهات دولية عديدة، واعتراف السلطات الأميركية بفداحتها، أعلنت وزارة العدل الأميركية في ديسمبر/كانون الأول 2008، اعتزامها توجيه تهم جنائية ضد موظفي “بلاك ووتر” الأربعة المتهمين بجريمة قتل 17 مدنيا عراقيا في ساحة النسور، وعلى الفور أبرم أحد المتهمين جيرمي ريدجواي صفقة مع الادعاء العام ثبت فيها إقراره بارتكابه الجريمة، ومبديا استعداده للشهادة ضد الآخرين.
ويتابع بالقول “بعد ذلك بدأت الضغوط تتوالى من أجل منع محاكمات حقيقية، وباختلاق ذرائع شتى، والتلاعب بالقضايا الإجرائية، رفضت المحكمة الجزائية في مقاطعة كولومبيا في 31 ديسمبر/كانون الأول 2009 التهم الموجهة الى المتهمين الأربعة، وكأنها تمنحهم هدية (عيد الميلاد) على حساب الضحايا من العراقيين، وبعد محاولات عديدة، رفضت هيئة الاستئناف الأميركية في مقاطعة كولومبيا حكم المحكمة السابق (الرافض لتجريم المتهمين) وقررت استمرار القضية.
ويشير حرج إلى أن المحاكمة بدأت في 17 يونيو/حزيران 2014، وفيها أُدين نيكولاس سلاتن -وهو أول من بدأ إطلاق النار- بارتكاب جريمة قتل من الدرجة الأولى، وأدين سلاو وليبرتي وهيرد بالمساعدة وبمحاولة القتل غير العمد واستخدام رشاش لارتكاب جريمة عنيفة.
وفي 13 أبريل/نيسان 2015، حكم قاضي المقاطعة الفدرالية رويس سي لامبيرث على سلاتن بالسجن مدى الحياة، وحُكم على الحراس الثلاثة الآخرين بالسجن 30 عاما لكل منهم.
ويسترسل بالقول: لكن ذلك لم يكن نهاية المطاف، ففي 4 أغسطس/آب 2017، ألغت هيئة مؤلفة من 3 قضاة من محكمة الاستئناف الأميركية لدائرة مقاطعة كولومبيا إدانة سلاتن بالقتل،
وأمرت بإعادة الحكم على المتهمين الآخرين، وهكذا، دخل القضاء الأميركي فصلا جديدا من التسويف، لكن سلاتن أُدين مرة أخرى بارتكاب جريمة القتل وحُكم بالسجن مدى الحياة، وجرى تخفيف أحكام كل من هيرد وليبرت للنصف تقريبا من الحكم الأول الذي كان 30 عاما.
وتواصلت جهود حثيثة من أطراف سياسية، مرتبطة بهذه الشركات، من أجل ألا يتم تنفيذ هذه الأحكام، وفي ازدراء تام للقضاء، ولدماء الضحايا، ولأبسط مبادئ حقوق الإنسان، أصدر الرئيس الأميركي السابق عفوا رئاسيا يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 2020.
عفو ترامب
ويرى الخبير القانوني علي التميمي أن قرار ترامب الذي أصدره الأشهر الأخيرة لولايته بإطلاق 4 متهمين بقضية حادثة ساحة النسور يخالف القانون الدولي، ويخالف الاتفاقية الثنائية بين العراق وأميركا 2008 المادة 27، كما يخالف المادتين 3 و5 واللتين توجبان حماية المدنيين أثناء الحرب وأن تكون الأحكام عادلة.
وفي حديثه مع الجزيرة نت، يؤكد التميمي ما ذهبت إليه مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، بأن هذا القرار استهان بكرامة الضحايا وخالف القانون الدولي الإنساني واتفاقية حماية المدنيين أثناء الحرب.
ويبين الخبير القانوني بأن العراق يمكنه الاعتراض والطعن في الأمم المتحدة مع وجود نسخ من هذه الاتفاقيات وفق المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة، ويحق للعراق الطلب من الرئيس جو بايدن استئناف القرار لكون هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما يستطيع العراق مطالبة مجلس الأمن إحالة هذا الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية.
بدوره يقول المحلل الإستراتيجي الدكتور حازم حمد الجنابي إن الذي يفسر سبب عفو ترامب عن مرتكبي مجزرة النسور، هو العلاقة بينه و”أريك برنس” مؤسس “بلاك ووتر” المعروفة بانتهاكها لحقوق الإنسان والقانون الدولي وقوانين الحرب بالأخص في العراق وأفغانستان، فضلا عن أن “بيستي ديفوز” وزيرة التعليم في عهد ترامب هي أخت “برنس” وهناك علاقة مع نائبه “مايك بنس” وهذه العائلة كانت داعمة لحملة ترامب الانتخابية.
ويضيف للجزيرة نت بأن الأميركي “جون بارتاريني” المسؤول عن التحقيق في جريمة ساحة النسور أعرب عن اشمئزازه من العفو الرئاسي، وشبه المذبحة بمجزرة “ماي لاي” في فيتنام، التي وقعت في 16 مارس/أذار 1968.
وينوه الجنابي إلى أن ذوي الضحايا رفضوا العفو الرئاسي، مؤكدين أن دماء الأبرياء لا يمكن نسيانها، وهذا يظهر الوجه الحقيقي للأميركان، أما “نصب الحرية وشعار حقوق الإنسان والعدالة الأميركية فهي مجرد قناع”.
المصدر : الجزيرة