لم يتغير المشهد كثيرا في العراق بالنسبة إلى الصحافيين عما كان عليه قبل عقد من الزمن حين كان يتم تكفير الصحافيين وقتلهم لأي سبب، كما أن معظم قضايا الصحافيين الذين تعرضوا إلى عمليات اغتيال لم يتم فيها أي بحث أو تحرّ حقيقي، وملفات التحقيق لم تكن سوى حبر على ورق.
بغداد – استعاد تحقيق استقصائي قصصا أليمة لصحافيين عراقيين من محافظة نينوى، لقوا مصائر مروعة مع ضياع حقوقهم التي كفلها قانون الصحافيين، ورغم انقضاء وقت طويل على هذه القصص فإن الأمس لا يختلف كثيرا عن اليوم وورثة داعش المتعددون من مختلف الأطياف يقومون بنفس المهمة.
وأشار التحقيق الذي أعده الصحافي دلوفان برواري وفريق نينوى الاستقصائي، بدعم من مركز الخليج لحقوق الإنسان في إطار مشروع التحقيق في الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى أن “العديد من الصحافيين وصلوا إلى مرحلة كتابة وصاياهم بسبب العمل الذي كانوا يقومون به وسط سيل من المخاطر الكبرى والمفخخات التي كانت تملأ الشوارع”.
وأكد خبراء قانونيون أن معظم قضايا الصحافيين الذين تعرضوا إلى عمليات اغتيال لم يتم فيها أي بحث أو تحر حقيقي، ولا حتى تعيين مكان الحادث أو سؤال ذوي الصحافيين عن تفاصيل الواقعة، وإذا ما كان الصحافي تعرض إلى تهديد من أشخاص محددين. وملفات التحقيق لم تكن سوى حبر على ورق.
وأضافوا أن جميع القضايا كانت تغلق، حتى لو كان المتورطون معروفين ويمكن الاستدلال عليهم بتحقيق وتحر بسيطين.
وتروي والدة الصحافية الشابة سروة عبدالوهاب أحداث مقتلها في الرابع من مايو 2008 وسط مدينة الموصل شمالي العراق، حين التحقت بـ”قافلة” الصحافيين المقتولين في نينوى والتي تضم نحو 80 اسما قيدت أغلبية جرائم قتلهم وخطفهم ضد مجهولين، وبقيت ملفاتهم مركونة حتى بعد أن استردت المدينة حريتها في العام 2017 وخرجت من قبضة الجماعات التكفيرية.
وتقول الأم المكلومة “قاومناهم لأكثر من ربع ساعة لكنّ أحدا لم ينجدنا… في النهاية لم يتمكنوا من دفعها داخل السيارة، فأطلقوا وابلا من النار عليها فسقطت بين يدي.. تركتني وتركت هذا العالم الموحش لتخلف نارا في روحي لن تنطفئ إلى آخر يوم في عمري”.
علي عمر: فتاوى القتل وقوائم المطلوبة رؤوسهم كانت تتوالى
وتمت الحادثة عندما عززت الجماعات المسلحة وجودها حتى صارت هي الحاكمة الفعلية لمدينة نينوى، وكانت بياناتها التي تتضمن قراراتها وتعليماتها تُنشر في الأسواق والمساجد وحتى بعض الدوائر الحكومية.
وتضمنت بعض هذه القرارات تكفير فئات من المجتمع، ومن بين الذين طالتهم نار التكفير أو الاتهام بالعمالة الصحافيون والكتاب الذين حاولوا تأدية عملهم بنقل الحقائق في جو مشحون بالاستقطاب الطائفي والاتهامات السياسية، فطالت عمليات القتل العشرات منهم، وانتهت الجرائم بتعليقها ضد مجهولين.
وقد افتتحت تلك الجماعات حقبة الموت باغتيال أحمد شوكت الصحافي في أكتوبر 2003 ثم توالى سقوط الصحافيين. وفي سبتمبر 2005 قتلت الصحافي في صحيفة “السفير” العراقية فراس المعاضيدي (36 سنة).
وتقول بان العبيدي التي لم يكن قد مضى على زواجها بالمعاضيدي سوى عشرين يوما “حولوا المنطقة لدقائق إلى جبهة قتال وكأنهم يحاربون جيشا مدججا وليس مجرد صحافي لا يملك إلا قلمه… لم يكن لديهم أي سبب سوى أنه صحافي كتب كلمات لم تعجبهم، فأصدروا فتوى بقتله”.
وتشير العبيدي التي شكلت بعد مقتل زوجها جمعية للدفاع عن حقوق الصحافيين إلى أن الكثير من الصحافيين قتلوا بناء على فتاوى إعدام صدرت تباعا من جماعات جهادية مسلحة، فقتل من قتل وتخفى البقية أو هربوا إلى خارج المدينة.
وتضيف “القتلة كانوا يتحركون فيها وينفذون عمليات التصفية بوجوه مكشوفة لا تخاف من ملاحقة قانونية أو عشائرية”.
وقبل مقتل المعاضيدي بيومين، عثرت القوات الأمنية على جثة زميلته في صحيفة “السفير” هند إسماعيل (28 عاما) في أطراف المدينة مصابة برصاصة بندقية ناحية القلب، وقد أحدث الأمر فزعا جماعيا بين الصحافيات اللواتي قطعت معظمهن يومها علاقتهن بالمهنة أو توارين عن الأنظار تماما في مدينة أضحت مسرحا كبيرا للقتل.
وقيدت الجهات الأمنية جميع عمليات القتل تلك ضد مجهولين وأغلقت ملفاتها رغم أن القتلة في العديد من الوقائع كانوا معروفين، وحتى بعد أن فقدت الجماعات المسلحة قوتها في المحافظة وخسرت حواضنها نتيجة سياسات القتل الممنهج والتي ختمها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بعمليات إبادة، لم تتحرك أي جهة لإعادة فتح تلك الملفات.
كما لم يحصل ذوو الكثير من الضحايا على مستحقات “شهداء الصحافة”، بسبب قوانين وتعليمات متعارضة ونتيجة تقصير الأجهزة الأمنية وإهمال نقابة الصحافيين وتفضيل عائلات بعض الصحافيين الصمت خوفا من الاستهداف في ظل غياب الحماية.
وصنف العراق بعد أبريل 2003 ولنحو عقد من الزمن كأخطر بلد على الصحافيين في العالم، حيث قتل 490 صحافيا على أيدي جهات متعددة (مجاميع تكفيرية، ميليشيات ضمن الدولة، أجهزة أمنية وجيش، وقوات الاحتلال الأميركية)، بحسب إحصائيات لمنظمات دولية.
ويتحدث الصحافي علي عمر (45 عاما) عن مهنته التي يصفها بـ”مهنة الموت”، قائلا “لا أعرف كيف كنا نعمل وسط سيل المخاطر الكبرى. فالمفخخات كانت تملأ الشوارع وعليك أن تتواجد قرب مواقع الحدث، وكانت فتاوى القتل تلاحقنا وقوائم المطلوبة رؤوسهم تتوالى. مجرد البقاء في المدينة كانت مخاطرة كبرى… ورفاقنا كانوا يتساقطون، لم نكن نعرف متى يحين الدور علينا وتخترق الرصاصات أجسادنا”.
شهداء الكلمة
وبدت عمليات قتل الصحافيين مفضلة لدى الجماعات المسلحة لما تحظى به من تغطيات إعلامية واسعة وهو ما كانت تبحث عنه، وكانت قوائم الصحافيين “المطلوبة رؤوسهم” تعلق على أبواب جوامع الموصل، ليتساقطوا بعدها واحدا بعد الآخر في وضح النهار أمام أنظار عناصر الأجهزة الأمنية.
ويقول الصحافي جمال البدراني “لم تكن الأجهزة الأمنية عاجزة عن حماية الصحافيين ممن ترد أسماؤهم في قوائم التصفية فحسب، بل حتى عن إلقاء القبض على المتهمين إن عرفوا، وتكتفي بتدوين معلومات بسيطة عن الواقعة”.
ويضيف “لم تتحرّ حتى عن الأشخاص الذين كانوا يعلقون بأيديهم قوائم الموت وينشرون فتاوى التنظيمات في الجوامع. كان هناك استسهال لقتلهم أو تواطؤ على ذلك، لذلك كنا نخشى من حضور بعض اجتماعات الحكومة ومن تقارير مسؤوليها بقدر خشيتنا من الجماعات”.
ويقول المحامي سلام الصواف الذي توكل في قضايا عدد من الصحافيين، إن معظم قضايا الاغتيال تلك لم يتم فيها أي بحث أو تحرٍ حقيقي، ولا حتى تعيين مكان الحادث أو سؤال ذوي الصحافيين عن تفاصيل الواقعة، وإذا ما كان الصحافي تعرض لتهديد من أشخاص محددين. وتم التعامل مع الصحافيين الذين استهدفوا بنحو مباشر بسبب عملهم في كشف ونقل الحقائق، معاملة ضحايا الإرهاب، ليحرموا بذلك من الكثير من الحقوق والامتيازات القانونية. ويُحمل العديد من أفراد عائلات “شهداء الصحافة” نقابة الصحافيين مسؤولية ذلك لأنها “لم تقم بواجبها فاضطروا إلى القبول بكونهم ضحايا إرهاب قتلوا بالصدفة نتيجة تفجير أو اشتباك مسلح”.
وعمل الكثير من صحافيي نينوى وإعلامييها وعلى مدى سنوات طويلة دون أن يكونوا أعضاء في نقابة الصحافيين. ويصف العديد منهم النقابة التي تضم أكثر من 20 ألف عضو، بأنها “هيكل تنظيمي بلا دور ولا أثر”، مشيرين إلى غيابها الذي يصفونه بالمخجل عن “ملف اغتيال الصحافيين وحقوق عائلاتهم”.
ويتهم هؤلاء النقابة بمنح العضوية “على أساس المحسوبية ليستفيد منها أشخاص دخيلون”.
العنف الموجه ضد الصحافيين والمدونين العراقيين استمر في التصاعد في 2019 و2020 مع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في أكتوبر 2019 واستمرت لنحو عام، ليشمل تهديد مؤسسات كاملة طالها الحرق والغلق في وضح النهار وعلى مرأى القوات الأمنية
ويقول الصحافي زياد السنجري إن “الكثير من الصحافيين لم يحصلوا على عضوية النقابة، في حين تم منحها لأشخاص لا يعملون فعليا في مجال الصحافة أو يعملون فنيين وسائقين أو حتى سعاة في المؤسسات الإعلامية”.
ويشير السنجري الى أن النقابة في ذات الوقت منحت العضوية لجميع العاملين في المؤسسات الإعلامية التابعة لأحزاب السلطة أو الميليشيات.
وفي ظل هذا الواقع استمر العنف الموجه ضد الصحافيين والمدونين، وتصاعد في 2019 و2020 مع الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في أكتوبر 2019 واستمرت لنحو عام، ليشمل تهديد مؤسسات كاملة طالها الحرق والغلق في وضح النهار وعلى مرأى القوات الأمنية التي لم تمنع تلك العمليات وتركت المتورطين دون محاسبة رغم أن الكاميرات رصدت وجوههم ووثقت تصريحاتهم التي أظهرت انتماءهم لميليشيات معروفة لها مقرات رسمية.
ويقول صحافي رفض الكشف عن اسمه “المشهد لم يتغير كثيرا عما كان عليه قبل عقد من الزمن حين قتلت سروة وقتل المعاضيدي وأحمد شوكت. كان الصحافي يهدد ويقتل لمجرد عمله في الدولة أو تواصله مع مسؤولين حكوميين أو مع قوات التحالف، واليوم يكفي أن يتهمك أحدهم في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي بالعمالة لسفارة أو لدولة ما أو حزب حتى يتم تبرير تصفيتك”.
الموصل التي تخلصت من سطوة الجماعات الدينية السلفية المتشددة بين 2003 – 2017، واقعة اليوم تحت سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي أو كما يسميها البعض “وريثة داعش”، كونها تفرض نفسها كحاكمة في ساحة تتراخى فيها قبضة الجيش النظامي والشرطة.
العرب