المال الأميركي غذّى فساد الحكومة الأفغانية وعجل بانتصار طالبان

المال الأميركي غذّى فساد الحكومة الأفغانية وعجل بانتصار طالبان

أثار اعتماد الولايات المتحدة على عقيدة “الأمن أولا” في أفغانستان انتقادات لدى الأوساط الأميركية التي اعتبرت أن هذه السياسة تغاضت عن شيء يضاهي في خطورته الإرهاب، وهو الفساد المستشري في البلاد الذي قاد بشكل واضح إلى انتصار حركة طالبان بعد أشهر على بدء القوات الأميركية الانسحاب.

واشنطن – سلطت سيطرة حركة طالبان على أفغانستان والانهيار السريع للحكومة، الضوء على حجم الفساد الذي استشرى في البلاد خلال عشرين سنة من الاحتلال الأميركي.

وأصدر مكتب المفتش العام الأميركي الشهر الماضي تقريرا شاملا من 140 صفحة عن أموال إعادة إعمار أفغانستان (سيغار).

وتطرق التقرير بشكل مفصل إلى الفساد الذي تغافلت عنه الولايات المتحدة وساهمت بشكل كبير في انتشاره، حيث ركز على الخيارات الأميركية التي غذّت الفساد وسمحت لطالبان بإسقاط الحكومة بسرعة أكبر بكثير مما افترضه الكثيرون.

ويقول الصحافي الأميركي كيسي ميشيل في مقال نشر بمجلة فوريين بوليسي، “كانت الأمثلة على القرارات والسياسات الأميركية التي وسعت الفساد المستشري، وكيف نشأ هذا التوسع مباشرة من الوجود الأميركي، كثيرة جدا بحيث يتعذّر سردها. وكان وجود الولايات المتحدة في أفغانستان مشبعا بقصص حول كيفية غضّ أميركا وحلفائها في الناتو البصر عن انتشار الفساد، خاصة في كابول، والممتدّ من تسليم للمسؤولين الأفغان الفاسدين، وتجاهل توقف التحقيقات في فساد النخبة”.

واشنطن ركزت على الأهداف الأمنية قصيرة المدى وكان ذلك على حساب الجهود المبذولة لمكافحة الفساد

وأضاف “لم تكن الرشوة بسيطة. وحددّ سيغار أن الكثير من الفساد الذي غذته الولايات المتحدة نشأ مباشرة من زيادة الاستثمار الذي تدعمه في البلاد، دون أي رقابة”.

وبحسب تقرير سيغار “مع زيادة الإنفاق، فشلت الولايات المتحدة في البداية في التعرف على التهديد الوجودي الذي يمثله الفساد لجهود إعادة الإعمار، وخسرت فرصة لجعل جهود مكافحة الفساد جزءا أساسيا من استراتيجيتها”.

وساعد تدفق المساعدات الدولية كما يحدث في أي بلد عادة في تحفيز الفساد، حيث يحاول المسؤولون الفاسدون السيطرة على أكبر قدر ممكن من التدفقات المالية إلى الداخل.

وطوال العشرين عاما الماضية، كانت التقارير تتوالى عن أسماء وهمية في صفوف قوات الأمن الأفغانية، وعن خيانات يقوم بها بعض قادتها.

ورغم انتباه الولايات المتحدة لهذه المشكلة بعد سنوات على تدخلها، إلا أنها لم تفكر في وضع حد لها.

وأشارت إحدى برقيات وزارة الخارجية لعام 2010 نقلا عن مستشار الأمن القومي الأفغاني أن “الفساد ليس مجرد مشكلة لنظام الحكم في أفغانستان، إنه نظام الحكم”.

ووفقا لسيغار أغضبت البرقية الأميركية الأفغان، حيث صرخ شرطي قائلا “لماذا لا تتوقفون عن منحنا المال؟”.

ويقول كيسي ميشيل “حدد البيت الأبيض الآن شيئا واضحا تم تجاهله منذ فترة طويلة هو أن الفساد “يعيق الحكم الفعال” و”يساهم في الهشاشة الوطنية”. وتحركت إدارة بايدن مؤخرا بوضع الفساد في مستوى تهديد أساسي للأمن القومي، على قدم المساواة مع مشاكل مثل الإرهاب. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني شيئا دون تغييرات سياسية متناسبة مع المضي قدما. فليست هذه المرة الأولى التي يفترض بالولايات المتحدة أن تتعلم الدروس من محاولة دعم دولة فاسدة ثم مشاهدتها تنهار بمجرد الخروج”.

وتابع “لقد ركّزت واشنطن على الأهداف الأمنية قصيرة المدى وكان ذلك على حساب الجهود المبذولة لمكافحة الفساد والإشراف عليها مرارا وتكرارا. ولم يكن هذا مفاجئا بالضرورة”.

وبدلا من الاعتراف بالصلات المباشرة بين الفساد المتصاعد والتمويل الأميركي والقرارات السياسية، خلص تقرير سيغار إلى نظر المسؤولين الأميركيين إلى الفساد بنفس الطريقة التي سيكون عليها في الولايات المتحدة، أي السلوك الإجرامي المنحرف للمسؤولين الأفغان الأفراد، بدلا من كونه ظاهرة ممنهجة.

وبدا أن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن الفساد الذي واجهوه (وعززوه) ظل محليا في أفغانستان وأنه يمكن احتواؤه أثناء التعامل مع المخاوف الأمنية في أماكن أخرى. لكنهم لم ينتبهوا إلى كيفية تحول الفساد على مدى العقود القليلة الماضية. فنادرا ما يظل الفساد والأموال غير المشروعة في ولاية قضائية واحدة، بل يقفز عبر الحدود والبلدان والعديد من آليات السرية المالية التي تصعّب تعقب الأصول المنهوبة وإعادتها.

ومن الأمثلة على ذلك يستحضر الصحافي الأميركي سرقة بنك كابول، سنة 2010، حيث قامت شخصيات أفغانية مرتبطة سياسيا بنقل ما يقرب من مليار دولار خارج البلاد.

ولم يتوقف النهب عند هذا الحد. وبدلا من ذلك، اتبعت الأموال القذرة الفارة من أفغانستان مسارات قديمة، بما في ذلك مباشرة إلى الولايات المتحدة.

وتقول جودي فيتوري، التي عملت في فرقة العمل الرئيسية لمكافحة الفساد في أفغانستان، إن “الكثير من هؤلاء الفاسدين الأفغان يمتلكون بالفعل منازل في الولايات المتحدة، لقد أتت الكثير من هذه الأموال إلى هنا”.

ولم يتغير الكثير حتى بعد انهيار بنك كابول، سواء في أفغانستان أو من حيث السياسة الأميركية. وبقيت القصة هي نفسها سنة بعد سنة. وأعطت الولايات المتحدة الأولوية لعقيدة “الأمن أولا”، وصياغة الخطابات حول جهود مكافحة الفساد، والبحث عن انتصارات سهلة يمكن تعبئتها لسكان نفد صبرهم في الوطن، مع تهميش مخاوف الفساد. كما أوضحت سارة تشايس، وهي خبيرة بارزة في مجال الفساد الأفغاني والمساعدة الخاصة السابقة للأدميرال مايك مولين (رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية آنذاك)، أنها ساعدت في وضع قائمة استراتيجيات فعالة لمكافحة الفساد، من معاقبة المسؤولين الفاسدين إلى قطع التمويل عن القادة العسكريين الفاسدين وحتى استهداف الأفراد الفاسدين من أسرة الرئيس الأفغاني آنذاك حامد كرزاي.

وكانت الخطة ستعيد تنشيط تركيز أميركا على الفساد الأفغاني وكانت ستصبح واحدة من أكثر جهود مكافحة الفساد ابتكارا التي أطلقتها واشنطن على الإطلاق. لكنها اندثرت وسط مخاوف من صورة الولايات المتحدة إذا طاردت فجأة المسؤولين الذين دعمتهم لسنوات. وكتبت تشايس “لم يُنفّذ أي من هذه الخطط على الإطلاق”.

وقدمت مجموعة كبيرة من الإصلاحيين في الولايات المتحدة بالفعل قائمة بمقترحات لمكافحة الفساد، بما في ذلك تلك التي قدمتها تشايس.

كما أشار تقرير سيغار إلى مجموعة من التوصيات المتعلقة بالسياسات، مثل إنشاء مجلس الأمن القومي فريق عمل مشترك بين الوكالات يتولى إدارة استراتيجية مكافحة الفساد، مع تعميق الخبرة في هذا المجال بكل مؤسسة من وزارتي الخارجية والخزانة إلى أجهزة الاستخبارات.

ويقود الكونغرس هذه الدفعة من خلال قائمة غير مسبوقة من مشاريع قوانين مكافحة الكليبتوقراطية، التي من شأنها أن تخلق مجموعة أدوات جديدة تماما لمكافحة الفساد للتعامل مع الشبكات الفاسدة التي تقوض المساعدة الأميركية. وقدم الحزبان مؤخرا قانون مكافحة الكليبتوقراطية، والذي يضم سبعة مشاريع قوانين من شأنها أن تغطي كل شيء من تكليف التقارير العامة عن الامتثال لمكافحة الفساد في جميع البلدان إلى تجريم طلب الرشوة.

كما سيسمح مشروع القانون بنشر بعض قرارات حظر السفر ضد الفاعلين الفاسدين ومواجهة التأشيرة الذهبية وانتهاكات الإنتربول، وكلاهما شائع بين الفاسدين مثل أولئك المترسخين في كابول.

وتحتاج المساعدة الأمنية بشدة إلى بروتوكولات جديدة لمكافحة الفساد، والتي تبقى غير موجودة إلى حد كبير حتى الآن. كما ينبغي النظر في ما يسمى بقانون ليهي، الذي يحرم من ينتهك حقوق الإنسان من المساعدة العسكرية، ليشمل أولئك المتورطين في الفساد.

وبحسب كيسي ميشيل “يجب أن تنتهي أيام عقيدة ‘الأمن أولا’، حيث ترك الدفع لأمراء الحرب مقابل الأمن المفترض، وتجاهل العلامات الواضحة للسلوك الكليبتوقراطي لدى العملاء، وتمويل أولئك الذين يستفيدون من فيض الأموال القذرة المتدفقة، الباب مفتوحا أمام الأموال غير المشروعة ليتم غسيلها مرة أخرى في الولايات المتحدة. كل ذلك كان وضعا لأساس الهزيمة في نهاية المطاف”.

وأضاف “قد يؤدي الفساد إلى نجاح تكتيكي، وقد يبدو التحريض على الشبكات الفاسدة أو تجاهلها حلا سهلا في الوقت الحالي. ولكن، كما رأينا مرارا وتكرارا، سوف تنفجر هذه السياسة في وجه أميركا دائما”.

العرب