أزمة الغواصات: أي مستقبل لعلاقات باريس بواشنطن والناتو؟

أزمة الغواصات: أي مستقبل لعلاقات باريس بواشنطن والناتو؟

يجمع الخبراء والباحثون المهتمون بالعلاقات الدولية على أن ما بات يعرف «بقضية الغواصات» بين فرنسا وكل من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية؛ شكلت انتكاسة فرنسية على مستويات عدة منها المستوى الاقتصادي وذلك الذي يتعلق أساسا بالعلاقات الفرنسية الأمريكية الفرنسية وبالاستراتيجية الفرنسية الرامية إلى تعزيز حضورها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وقد شبه بعضهم ما حصل بإعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم 15 ايلول/سبتمبر، عن شراكة أمنية استراتيجية مع المملكة المتحدة وأستراليا ضمن اتفاق «اوكوس» بغرق الاستراتيجية الفرنسية في مياه هذين المحيطين.

فما الذي يجيز استخدام هذا التشبيه؟ وكيف جاءت ردود الفعل الفرنسية والأطراف المعنية الأخرى بالأوضاع الجيوسياسية والجيوستراتيجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؟ وكيف ستكون العلاقات الفرنسية المستقبلية مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية حلف شمال الأطلسي «الناتو» وبريطانيا؟
في البداية، لابد من الإشارة إلى أن فرنسا هي البلد الوحيد في العالم، الذي لديه حضور بري في مختلف البحار والمحيطات ومنها المحيط الهندي. ويعيش في جزيرة لاريونيون الفرنسية الواقعة في هذا المحيط قرابة تسع مئة ألف شخص بينما تؤوي جزيرة مايوت 280 ألف شخص، علماً أن هذه الجزيرة كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي منذ القرن التاسع عشر، على غرار مجموعة جُزر أخرى. وفي عام 1974 نظمت فرنسا استفتاء في هذا الأرخبيل، واختار سكان مايوت البقاء ضمن فرنسا، فيما اختار سكان الجزر الأخرى الاستقلال عنها.
بالإضافة إلى هاتين الجزيرتين الفرنسيتين المأهولتين الواقعتين في المحيط الهندي، توجد مجموعة جزر فرنسية صغيرة الحجم وغير مأهولة في المحيط ذاته لديها بالنسبة إلى فرنسا أهمية استراتيجية بالغة ولاسيما تلك التي تقع في قناة أو مضيق الموزمبيق. فلفرنسا فيها أو قربها حضور عسكري يسمح لها بالدفاع وقت الحاجة عن مصالحها الحيوية في البلدان التي تطل على المحيط الهندي وبخاصة الهند ومنطقة الخليج. واستطاعت من خلال حضورها البري والبحري في منطقة المحيط الهندي المساهمة في التصدي لعدد من المشاكل منها مشكلة القرصنة البحرية ومشكلة الهجرة غير النظامية.
وتنطبق الملاحظة ذاتها على الحضور الفرنسي في المحيط الهادئ، حيث إن لديها وجوداً سكانياً يُقدر بأكثر من نصف مليون شخص في كاليدونيا الجديدة وجزر بولينيزيا الفرنسية. وما تزال فرنسا تتخوف من أن يختار سكان كاليدونيا الجديدة الاستقلال عنها. ولذلك فإنها تسعى جاهدة منذ عشرات السنين إلى إقناع سكان هذه الجزيرة بأهمية البقاء ضمن إطار الجمهورية الفرنسية من خلال استفتاء تم تنظيمه على ثلاث مراحل حددت مرحلته الأخيرة بتاريخ الثاني عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر من العام الجاري. وثمة اليوم مشاورات بين السلطات المركزية الفرنسية وسلطات كاليدونيا المحلية لمعرفة ما إذا كان بالإمكان تأجيل الاستفتاء الثالث بسبب جائحة كورونا.
أما بشأن جزر بولينيزيا الفرنسية الواقعة هي الأخرى في المحيط الهادئ، فإن عددها يتجاوز المئة. وهي تمتد على مسافة تتجاوز ألفي كيلومتر، الأمر الذي يسمح لفرنسا بأن يكون لديها ثاني أكبر مجال بحري في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وذاك أمر مهم من النواحي الاقتصادية والجيوسياسية والجيوستراتيجية نظرا للفائدة الاقتصادية للبحار والمحيطات في مجال المبادلات التجارية العالمية وفي مجال استغلال المياه البحرية لتطوير مصادر طاقة المستقبل وأغذيته، وكذا الشأن في مجال حماية التنوع الحيوي البحري وتطويره، وأيضا فيما يتعلق بالتجسس على الخصوم والأعداء وحماية الأمن القومي عبر الغواصات. وهذا ما اهتدى إليه جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم فرنسا في العقود السبعة الماضية، في مقدمتهم الجنرال شارل ديغول.

بين باريس وكانبيرا

وللتذكير، كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قد قرر إجراء تجارب نووية إضافية في مياه المحيط الهادئ بعد وصوله إلى السلطة عام 1995 وتم الأمر في المحيط الهادئ قبل أن تتوقف هذه التجارب في عام 1996 بعد أن تسببت في موجة احتجاجات عالمية قادتها أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية والمنظمات غير الحكومية المناهضة للتجارب النووية.
ومن خلال صفقة الغواصات الفرنسية الاثنتي عشرة التي قررت كانبيرا شراءها من باريس «مجموعة نافال» بموجب عقد وقع في عام 2016 أي خلال فترة حكم الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند، حرص الطرفان الفرنسي والأسترالي على تجاوز تبعات الصورة السيئة التي كان الأستراليون يحملونها عن فرنسا بسبب هذه التجارب النووية. وتُرجم هذا الحرص مثلا عبر تعهد فرنسا بصنع الغواصات وتسليمها في حدود عام 2030 على ألا تُشغل بواسطة الطاقة النووية وعلى أن يُنفَق أكثر من نصف كلفة الصفقة في أستراليا لصنع هذه الغواصات بخبرات فرنسية، ولكن باللجوء إلى يد عاملة محلية. وهذه النقطة مهمة بالنسبة إلى البلدين لأن قيمة الصفقة قدرت بخمسين مليار دولار.
وبعد وصول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه في عام 2017 سعت فرنسا إلى تعزيز استراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ من خلال تنمية علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع أطراف فاعلة في هذه المنطقة وفي مقدمتها الهند وأستراليا. وتفسر كل هذه المعطيات الطريقة التي ردت من خلالها السلطات الفرنسية على خبر الإعلان عن معاهدة أو اتفاق «اوكوس».
ويهدف اتفاق «اوكوس» إلى تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة في إطار تحالف استراتيجي تقوده واشنطن ويرمي أساسا إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في منطقة المحيطين الهادئ والهندي لمواجهة الصين، التي تعتبرها الإدارة الأمريكية الحالية وتلك التي سبقتها، أكبر خطر يهدد الولايات المتحدة الأمريكية على أكثر من صعيد. ومن نتائج هذا التحالف المباشرة فسخ عقد صفقة الغواصات الأسترالية المبرمة عام 2016 مع فرنسا واستبدالها بصفقة جديدة تتولى بموجبها الولايات المتحدة الأمريكية تصنيع ثماني غواصات تُشغّل بالطاقة النووية وتستلمها أستراليا في حدود عام 2040.
أصيبت فرنسا بحالة من الإحباط الشديد، تجلى مثلا من خلال العبارات والنعوت القاسية التي وُجّهت إلى أطراف الشراكة الجديدة، والتي صدرت بشكل خاص على لسان وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان. وقام بعد ذلك باستدعاء سفيرها لدى واشنطن وكانبيرا للتشاور، في خطوة غير مسبوقة.
وكانت باريس تعول كثيرا على حلفائها في الاتحاد الأوروبي للوقوف معها وقفة حازمة ضد واشنطن، لكن الرد الأوروبي أتى متأخرا على لسان رئيسة المفوضية الأوروبية والمسؤول عن السياسة الخارجية والأمنية؛ ولم يتجاوز هذا الرد حدود التأكيد على أنه ما كان على واشنطن التعامل بهذه الكيفية مع حليف تاريخي مثل فرنسا على هذه الشاكلة. وأكثر من ذلك اصطفت الدنمارك إلى جانب الولايات المتحدة.
ويرى باحثون في العلاقات الدولية وخبراء في منطقة المحيطين الهادئ والهندي أن أستراليا التي تأزمت علاقاتها مع الصين في الآونة الأخيرة لعدة أسباب، منها حرص كانبيرا على فتح تحقيق مستقل وشفاف بشأن كيفية نشأة فيروس كورونا في الصين، تدرك اليوم أن المظلة الأمنية الأمريكية أكثر أمانا من المظلة الفرنسية أو غيرها من المظلات الأخرى أمام شهية الصين المتنامية على أكثر من صعيد في هذه المنطقة. فالغواصات الأمريكية أكثر قدرة من نظيرتها الفرنسية، على ردع الخصم الصيني. ضف إلى ذلك أن الشراكة الأمنية الجديدة مع الولايات المتحدة وبريطانيا ستسمح للأستراليين بالاستفادة بشكل أفضل من التكنولوجيا الأمنية والدفاعية الأمريكية والتي أصبح الذكاء الاصطناعي يلعب في تطويرها دورا كبيرا.
وهذا ما أدركته الصين، التي قالت إن شراكة «اوكوس» تُذكر بـ»عقلية الحرب الباردة» معتبرة أن الاتفاق ينسف «بشكل خطير السلام والاستقرار في المنطقة ويكثف السباق نحو التسلح ويهدد الجهود الدولية الرامية إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية».

منهجية العقلانية والواقعية

وقد علق العديد من المحللين السياسيين الفرنسيين ومنهم آلان فراشون المحلل السياسي في صحيفة «لوموند» على الرد الفرنسي تجاه ما يسمى «أزمة الغواصات» فقالوا إن من مزاياها أنها أثبتت مرة أخرى أن فرنسا في نهاية المطاف قوة عالمية متوسطة الحجم، وأن الدعوات التي صدرت عن بعض أحزاب اليمين واليسار المتشددة بمغادرة حلف الناتو في غير محلها، لأن فرنسا غير قادرة بمفردها على الدفاع عن مصالحها الحيوية الاستراتيجية في العالم. ويقول هؤلاء إن التجربة أثبتت حتى الآن أن تصدي فرنسا للإرهاب في منطقة الساحل ما كان له أن يصل إلى النتائج التي حققها حتى الآن لولا الدعم اللوجيستي والاستخباراتي الأمريكي.
وإذا كانت هذه الأزمة قد أثبتت أيضا حاجة دول الاتحاد الأوروبي إلى إنشاء قوة دفاعية مشتركة وصناعة عسكرية مشتركة وسياسة أمنية مشتركة تأخذ في الحسبان التحديات العسكرية والأمنية والدفاعية التي ستواجهها دول الاتحاد الأوروبي على المديين المتوسط والبعيد، فإن الرئيس الفرنسي الحالي يدرك جيدا أنه ليس من السهل العمل على تجسيد هذه الحاجة عبر خطوات عملية وسريعة لعدة اعتبارات منها مثلا أن عدة دول في الاتحاد الأوروبي لا تزال ترى أن المظلة العسكرية الأمريكية هي الدرع الواقي من مثل هذه الأخطار وفي مقدمتها الخطر الروسي.
لكل ذلك، فإنه ليس ثمة أمام فرنسا اليوم وغدا إلا خيار واحد هو استخدام منهجية عقلانية وواقعية تنطلق من مبدأ أنه على فرنسا مواصلة التعاون مع الولايات المتحدة لأنها شريك استراتيجي تاريخي برغم اختلاف المصالح الحيوية والاستراتيجية الفرنسية والأمريكية في كثير من الأحيان. وليس من مصلحة باريس أن تتوتر علاقاتها مع لندن لأن ما يجمع بين البلدين أكثر بكثير مما يفرقهما ولأن بالمملكة المتحدة بلد دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، والبلد الأوروبي الثاني مع فرنسا الذي لديه قوة عسكرية فيها مكان للسلاح الذري حتى بعد خروج هذا البلد من الاتحاد الأوروبي.
يبدو أن فرنسا لن تنسى بسرعة أنها طُعنت في الظهر من قبل الحليف الأمريكي عبر «أزمة الغواصات» كما يتّضح من كلام وزير خارجيتها جان إيف لودريان بعد لقائه يوم الخميس الماضي بنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن، في نيويورك، حيث أبلغه بأن الخروج من الأزمة يتطلب «وقتاً وأفعالاً» وفق بيان الخارجية الفرنسية. وهو ما أقر به بلينكن نفسه، قائلاً إن يلاده تدرك أن المصالحة مع باريس «ستستغرق وقتاً». وهو موقف شاطره نظيرهما الألماني هايكو ماس. ومع ذلك فإن فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تدركان أنهما بحاجة ماسة إلى بعضهما. وهذا ما جعل رئيسي البلدين جو بايدن وإيمانويل ماكرون يجريان محادثة هاتفية، يوم الأربعاء الماضي، بطلب من سيد البيت الأبيض، ركزا خلالها على ضرورة «إطلاق عملية تشاور معمق تهدف إلى تأمين الظروف التي تضمن عودة الثقة» بين الحليفين بعد هذه الأزمة. وقررت باريس على إثرها إعادة سفيرها إلى واشنطن بسرعة.
وبعدها بيومين، جرت مكالمة هاتفية في السياق نفسه بين الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بطلب من هذا الأخير، الذي تعهد خلالها بتقديم مقترحات عملية من شأنها إعادة الحيوية إلى التعاون الاستراتيجي بين البلدين في عدة قضايا منها ضمان الأمن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ والتصدي لظاهرتي الاحتباس الحراري والإرهاب.

آدم جابر

القدس العربي