لا تخلو فصول السنة العراقية من القسوة. وما من فئة أو طائفة عراقية لم تتعرض يوما ما للقسوة حتى قيل إن العراق عادل في ظلمه. وقد تكون المبالغة مقبولة في ذلك الشأن حين يُقال إن الشخصية العراقية طُبعت على القسوة. وهو ما تنقضه صفات أخرى يتمتع بها العراقي كالرقة والكرم والمروءة وهي صفات ليست ثابتة وتتعرض للاندثار بسبب القهر والاستلاب والقمع وسواها من الممارسات السلطوية التي امتزجت عبر السبعين سنة الماضية بيوميات العراقيين.
لذلك يبدو التباكي على أموال وممتلكات اليهود العراقيين المنهوبة نوعا من التمييز الذي يُراد منه شراء رضا إسرائيل من غير أن تكون هناك مناسبة ولا أن يكون الثمن يستحق كل ذلك الضجيج للتغطية على قانون عراقي لا يزال ساريا يقضي بتجريم التعامل مع إسرائيل أو الدعوة إلى إقامة علاقات معها وهو الهدف الذي اجتمع من أجله عراقيون في كردستان، كان مؤتمرهم مناسبة للثناء على الدولة العبرية والبكاء على ممتلكات اليهود التي نُهبت قبل ثمانين سنة.
لم يرد ذكر الأمم التي سبيت بعد اليهود في عراق أُبتلي بأحزابه وعقائده وقبلهما بقسوة أبنائه وقدرتهم على الانتقال من الرقة إلى الخشونة، من الحكمة إلى التفاهة، من الصداقة إلى العداء، من العقل إلى الجنون في زمن قياسي يلغي العمق التاريخي والعيش المشترك والوطن الذي بُليت الذكريات فيه.
لم تكن حال اليهود أسوأ من أحوال سواهم من العراقيين. لقد التحق بهم مسيحيو العراق وأزيديوه وأكراده وتركمانيوه ومسلموه السنة وليس مسلموه الشيعة بأفضل حال إذا ما طالبوا بحقوق المواطنة. وكانت هجمات الإبادة الحزبية بين حين وآخر لا تفرق بين دين وآخر وقومية وأخرى. فمن 1958 إلى 1963 كان القتلى يتوزعون بين الطوائف والقوميات من غير تمييز بينهم.
ذلك هو العراق الذي لم يتعرض فيه اليهود وحدهم للاضطهاد بل أن الهوية العراقية كانت ولا تزال مصيدة للقتل. لا تكفي عراقيتك لتضمن لك عيشا كريما في العراق. يريدك الشيوعيون أن تكون شيوعيا. وهو ما فعله البعثيون. شيعة السياسة لا يعجبهم أن تكون شيعيا فقط كذلك السنة المتعصبون. كانت هناك دائما عمليات هي أشبه ما تكون بالإبادة تعرض لها السكان المدنيون من غير أن يشتركوا في أي حرب.
سيكون علينا دائما أن نتذكر أن الموصل شهدت عبر ثلاث سنوات عمليات إبادة تنوعت في أسبابها والجهات التي نفذتها والأهداف التي تقف وراءها غير أن الثابت أن أهل الموصل لم يكونوا طرفا في أي نزاع مسلح، بل كانوا ضحايا. كان ذنبهم الوحيد أنهم عراقيون.
كانت هناك حفلة قتل عام 2014 وقع أكثر من ألفي طالب عسكري في قاعدة سبايكر بتكريت ضحيتها. وبهذه المناسبة يمكننا أن نتذكر ألف شخص كانوا قد سقطوا من جسر الأئمة ببغداد عام 2005 بعد أن انتشر خبر كاذب عن انتحاري ملغوم بين الحشود الذاهبة إلى زيارة إمام الشيعة موسى بن جعفر الملقب بالكاظم.
هكذا تتسع خارطة القتل أمام الجميع. لا فرق بين عراقي وآخر. هناك من يتباكى على العائلة المالكة التي قُتلت ظلما عام 1958 وهناك من يشيد اليوم بفضائل الباشا نوري السعيد الذي مُثل بجثته غير أن ذلك كان مصير ثلاثة من رؤساء العراق هم عبدالكريم قاسم وعبدالسلام محمد عارف وصدام حسين الذين لم ينجوا من القسوة العراقية التي كانوا من صناع مختبراتها.
كل تلك الوقائع تفضح حجم المغالطات التي صار البعض من العراقيين يتمتعون في ارتكابها وهم يتغنون بحنين اليهود العراقيين إلى بيوتهم التي ضاعت وسط الزلزال العراقي الذي لم يهدأ يوما.
لا يحتاج العراقيون إلى أي نوع من التطبيع مع إسرائيل تحت مظلة الشفقة على اليهود العراقيين بل هم في حاجة إلى أن يطبعوا مع أنفسهم بحثا عن السبل التي تجعلهم أقل قسوة. فهم ظلموا أنفسهم واليهود جزء منهم. وإذا ما كان يهودهم قد نجوا بأنفسهم فإن القسوة لا تزال تسحق الآخرين ممَن لا يملكون ذنبا سوى كونهم عراقيين.
كان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يردد “العراقي مشروع شهادة دائم” وذلك معناه “إن العراقي مشروع قتل دائم”.
العرب