مشروع “إعادة البناء” لقيس سعّيد أو الديمقراطية المباشرة: شعارات تغري الجموع ولكن بأي ثمن؟

مشروع “إعادة البناء” لقيس سعّيد أو الديمقراطية المباشرة: شعارات تغري الجموع ولكن بأي ثمن؟

يتفاعل الكثير من التونسيين بحماس شديد مع قرارات الرئيس قيس سعيّد ومساعيه لتغيير نظام الحكم بإرساء “الديمقراطية المباشرة” مدفوعين إلى ذلك بفشل الطبقة السياسية السابقة في إرساء ديمقراطية حقيقية، اجتماعية واقتصادية، تحسّن أوضاع الشعب وتمكنه من السيادة الفعلية. لكن هذا الاندفاع نحو هذه النظرية الجديدة للحكم يبدو غير مدروس جيدا بالنظر إلى مميزاتها ونواقصها.

تونس – أصبحت أوضاع تونس مفتوحة على جميع الاحتمالات، ولا أحد يعرف بالضبط ماذا سيحدث غدا، فالمعارضون للرئيس قيس سعيد من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين يتكتلون ضد التدابير الاستثنائية المتخذة من قبله ناعتين إياها بالانقلاب، ويجدون آلة إعلامية ضخمة تخدم أهدافهم وتتبنى شعاراتهم سواء في داخل البلاد أو خارجها، كما لديهم القدرة على تحريك بعض اللوبيات عبر حملات علاقات عامة ليس مهما تحديد من يدفع لها التكاليف، فهناك أهداف ومصالح متشابكة لدول وجماعات تعتبر ما قام به سعيّد مناقضا لمصالحها في المنطقة، ولاسيما إذا تعلق الأمر بتيار الإسلام السياسي.

دعم شعبي

ليو يونّينغ: الديمقراطية المباشرة لا يمكن تطبيقها في المجتمعات الحديثة

يمتلك الرئيس التونسي رصيدا شعبيا كبيرا يدعمه فيما يعتبره إصلاحات للمسار السياسي بالبلاد، لكن حالة الغموض التي تكتنف خياراته، باتت تقلق الكثيرين ممن أيدوه بعد إجراءات الخامس والعشرين من يوليو، فإلى حد الآن لم يفصح الرئيس رسميا عن أهدافه الحقيقية، ولم يكشف عمليّآ عن الآليات التي ينوي اعتمادها في تغيير واقع الشعب المنهك، كما أن

المواطن البسيط في تونس ليس مهتما بالديمقراطية السياسية خاصّة إذا لم تصاحبها ديمقراطية اجتماعية وأخرى اقتصادية مع إصلاح فعلي لكل القطاعات وتحسين ظروف المعيشة اليومية.

فالمسار الديمقراطي الذي بدأ منذ عشر سنوات ليس سوى جلباب فضفاض بقياسات محلية لنيل رضا القوى الغربية، وهو في جانب آخر منه سوق تم فسح المجال فيها لفتح أكبر عدد من الدكاكين الحزبية وتوفير وظائف مهمة في منظومة المجتمع المدني ولاسيما الجمعيات المصدّرة للخدمات والتي تحظى بتمويلات من الخارج دون رقابة حقيقية.

وللإيهام بنجاح التجربة أطلق العنان لحرية التعبير والاحتجاج ولكن ضمن إطار خاضع لتوازنات بين الفاعلين الأساسيين والاجتماعيين الأساسيين فيما بقي عامة الشعب في التسلل، وهو الذي واجه قطيعة مع النخبة السياسية الوافدة بعد يناير 2011 سواء من المنافي الخارجية أو من دوائر التهميش الداخلي لتحتل مراكز القرار بجشع غير مسبوق للحكم والمال، ليكون حصادها الفشل الذريع الذي دفع بقيس سعيّد إلى أن يصبح رئيسا للدولة برصيد لا يتجاوز ظاهريا مداخلات إعلامية بالعربية الفصحى وسمعة أستاذ جامعي نظيف اليد وطليق اللسان في نظر طلبته ممن نجحوا في ترويج صورته بشكل واسع من داخل حراك شبابي بدأ مغلقا عبر مجاميع التواصل الاجتماعي ثم انفتح على المقاهي والأسواق والفضاءات العامة.

لم يطرح سعيد برنامجا انتخابيا للشعب، بل ولم ينظم حملة دعائية لنفسه، ولكنه كان يحمل برنامجا سياسيا عقائديا لأنصاره المقربين، لم ينتبه أغلب المتابعين لحيثياته، وهو الديمقراطية المجالسية أو الديمقراطية المباشرة والتي تحاول القطع مع الأحزاب والدخول بالبلاد في تجربة لا أحد يعرف بالضبط طبيعة ما ستفرزه، وذلك من خلال ما يسمى بمشروع إعادة البناء الذي يتحرك منظّروه حاليا للتعريف به على نطاق واسع، مبشرين بما يصفونه بالبناء الديمقراطي القاعدي من خلال نظام انتخابي يعتمد الاقتراع على الأفراد في أضيق الدوائر وصولا إلى نظام حكم في شكل منظومة سلط ذات صلاحيات متوازنة.

ولعل من تابع فعاليات ملتقى “لنفكّر ديمقراطيتنا” المنعقد بالكبّارية إحدى أبرز المناطق الشعبية بوسط العاصمة في 18 سبتمبر 2021 يدرك أن سعيّد يعد لمشروع سياسي مختلف عما عرفته تونس منذ قيام دولة الاستقلال، كما لا يكاد يكون موجودا في أي دولة بالعالم حاليا، ولكنه بالمقابل يضرب في التاريخ.

الرئيس التونسي يمتلك رصيدا شعبيا كبيرا يدعمه فيما يعتبره إصلاحات للمسار السياسي بالبلاد، لكن حالة الغموض التي تكتنف خياراته، باتت تقلق الكثيرين

وتتأسس الديمقراطية المباشرة على تنظيم انتخابات مباشرة في العمادات، وهي أصغر التقسيمات الإدارية للبلاد، ليتم تصعيد ممثل عن كل عمادة إلى مجلس محلي في إطار المعتمدية (المحافظة تتكون من معتمديات) يتم من داخله اختيار ممثل في البرلمان، ولأن عدد المعتمديات في تونس يبلغ 265 فإن هذا العدد هو الذي سيتكون منه مجلس الشعب إلى جانب ممثلين عن الجاليات التونسية بالخارج.وتحـظى الديمقراطية المباشرة عادة بدعم من الاشتراكيين التحرريين وبعض الماركسيين ممن يعتبرونها تجسيدا لمفهوم دكتاتورية البروليتاريا، كما يرى فيها جانب من الأناركيين مشروعا لضرب مركزية السلطة، بينما يعتبرها منتقدوها بابا لدكتاتورية الأغلبية، ويرى آخرون أنه من الصعب نجاح التجربة في مجتمعات تعاني من الانقسام الثقافي والقبلي والعشائري والمناطقي ومن التباينات الطبقية والثقافية الواضحة.

قبل عام، كان هناك تنظير لأن يتم تنظيم الانتخابات بالاقتراع على الأفراد في دورتين وفي أصغر الدوائر أي العمادة وعلى المترشّحين أن يكونوا من سكان العمادة وليسوا من خارجها، لكن أخيرا بدأت النية تتجه للاكتفاء بدورة واحدة، ويمثّل الفائزون عمادتهم في مؤسّسة تحمل اسم المجلس المحلي في المعتمدية.

ووفق هذه النظرية، تتكفل المجالس المحلّية بالتّخطيط لمشاريع التّنمية المحلّية وتتمتّع بصلاحيات واسعة تسمح لها بمراقبة السّلطات التنفيذية بالمنطقة وتتمتّع بصلاحية التدخل للتدقيق عند الضرورة كما للناخبين في كل عمادة الحقّ في سحب الثّقة من نائبهم إن خان وعوده عن طريق عريضة يتم تقديمها من طرف نسبة معيّنة منهم.

وفي مرحلة أولى يتم اختيار عضو من كل مجلس محلي عن طريق قرعة ليجلس في المجلس الجهوي للولاية وبذلك يصبح هناك 24 مجلسا جهويا بحسب عدد الولايات (المحافظات) في تونس (24 ولاية).

وتتكفّل المجالس الجهويّة بالتّخطيط لمشاريع التّنمية الجهويّة بعد النّظر في المشاريع المحلّية التي تمّت دراستها في المجالس المحلّية وتتمتّع بصلاحيات واسعة تسمح لها بمراقبة السّلطة التنفيذية بالجهة والتدخّل للتدقيق عند الضرورة.

وفي مرحلة ثانية يقع اختيار عضو ثان من كل مجلس محلي عن طريق القرعة لتمثيل المعتمدية في مجلس نواب الشّعب وبذلك يصبح برلمانا يتكوّن من 265 نائبا إلى جانب نواب عن التونسيين بالخارج.

أما بالنسبة إلى السلطة التنفيذية، فتتكوّن من رئيس الدولة والحكومة ويتم انتخاب رئيس الدولة بالاقتراع على الأفراد وفي دورتين ويتكفّل رئيس الجمهورية بتعيين رئيس حكومة ويتحمّل السلطة التنفيذية كاملة، وفق ذات التصوّر الذي يحمل شعار “البناء الجديد” من منطلق شعار “الشّعب يريد”.

ولكن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة نظر ولاسيما في ظل التباين الكبير في عدد السكان والأهمية الاستراتيجية والاقتصادية بين المعتمديات، وكذلك بسبب وجود معتمديات لا يتجاوز عدد العمادات فيها الاثنتين.

أما جمع التزكيات فسيكون للمال الفاسد دور مهم في جمعها ولاسيما في الأوساط الفقيرة وبين الفئات الهشة، وستفرز المجالس المحلية فئة جديدة من ذوي النفوذ الاجتماعي والمالي والاقتصادي وستطرح من جديد قضية الحساسيات الاجتماعية والفئوية والتاريخية التي جعلت زين العابدين بن علي يلغي انتخابات لجان التنسيق الحزبي بعد أن تحولت إلى صراع أهلي، وأما عن مبدأ قدرة أبناء المعتمدية على سحب الثقة متى شاؤوا من النائب، فإن على أصحاب المشروع أن يدركوا أن المسألة ليست بهذه السهولة، خاصة إذا كان ذلك النائب متحدرا من مرجعية قبلية أو أسرية مهيمنة أو من وسط اقتصادي ومالي مؤثر.

يرى عبدالسلام حمدي وهو أحد الناشطين في مشروع إعادة البناء، من خلال صفحته الخاصة على موقع فيسبوك، أن الفارق بين الآلية والهدف هو آليّة ديمقراطية مواطنية حقيقيّة أي النظام الانتخابي باعتماد الاقتراع على الأفراد في أضيق الدوائر، “مع هدف يتمثل في تأسيس دولة قويّة وموحدة ديمقراطية اجتماعية تقوم على نظام سياسي هو البناء الديمقراطي القاعدي، وهو نظام حكم في شكل منظومة سلط ذات صلاحيات متوازنة تعمل على وضع أسس تصوّر ومصادقة وتنفيذ مشتركة للمشترك العام قرارا وثروات ومنوال تنمية يعود بالنفع على جميع فئات وجهات البلاد”.

وفي ملتقى الكبّارية الذي نظمته جمعية “جيل ضد التهميش” تطرقت الناشطة سنية الشربطي لمبدأ وجوبيّة الانتخاب حيث أكدت أن المبدأ هو المدخل للديمقراطيّة الحقيقيّة المجسّدة لشمولية وعموميّة الاقتراع وحق وواجب جميع المواطنات والمواطنين للمشاركة فيه، والتأسيس للاقتراع كإلزام والتزام مواطني مثله مثل بقيّة الالتزامات والحقوق والواجبات المرتبطة بالمشترك العام، والدفع نحو انخراط جميع الأفراد في تصور الحلول وإدارة والتأثير في الشأن العام.

مشروع إعادة البناء هو مشروع يوصف بالبناء الديمقراطي القاعدي من خلال نظام انتخابي يعتمد الاقتراع على الأفراد في أضيق الدوائر وصولا إلى نظام حكم في شكل منظومة سلط ذات صلاحيات متوازنة

والهدف من ذلك، وفق حمدي هو نظام سياسي متوازن لا رئاسي أو برلماني ولا بالمعدل بينهما، هدفه توازن السلط بشكل لا يسمح بتغول هذا على ذاك، تعود فيه السيادة الحقيقية للشعب يمارسها عبر مندوبيه المختارين مباشرة.

ويقول حمدي “نؤمن أشد الإيمان بالحقوق والحريات وهي أسس مجتمعية لا يمكن المساس بها ونصوص قانونية ودستورية لا مجال للتلاعب بها، وفي خلاف ذلك، دستور 2014 بسلطه العمومية جميعها تنفيذية وتشريعية وقضائيّة ورقابيّة وهياكل وهيئات خاصة وصلاحيات وتركيبة كلّ منها لا تعنينا ونحن في غنى عنها وندعو إلى استفتاء حولها”.

ويضيف ”فلنا حق الاقتراح والخيار بخصوص ماهية السلطة، وصلاحيات السلطات، وتركيبة الهيئات والمجالس، وقانون الانتخاب، ولن نسمح بآلة المحاصصة من جديد ولا بخرافات دور الإفتاء الدستوري على القياس وبنماذج مسقطة من هذا الطرف أو ذاك وهذه الدولة أو تلك وتجارب الفشل المتكررة في جميع بلدان العالم”.

ويتابع أن “أشدّ أنواع الديمقراطيّة وأعمقها هو أن نؤّكد حقّنا في أن نستفتي جميعنا في مصيرنا وكيفية إدارة مشتركنا العام وأقسى أنواع الظلم والدكتاتوريّة هو رفض ذلك وممارسة سلطة المصلحة والنخبة والفئة والمعرفة والحزب والجماعة من قبل جوقات مستهلكة ومنتهية”.

ويرى البعض أن ما يتحدث عنه أنصار نظرية سلطة الشعب أو حكم الشعب لنفسه، لا يكتمل إلا بصورة الزعيم وبغيابه يكون البناء قد انهار، ويعتبر آخرون أن الفكرة كانت طوباوية بالأساس منذ بداياتها التاريخية.

وجاء في دراسة للباحث ليو يونّينغ، من مركز فيربانك للدراسات الصينية في جامعة هارفارد، والذي أشاد بسويسرا باعتبارها نموذجا يُحتذى به للديمقراطية المباشرة في المجتمع المعاصر، رغم أنها تُطبق في حقيقة الأمر نظامًا ديمقراطيًا غير مُباشر، ومع ذلك، يُتيح نظامها السياسي ممارسة الانتخابات المباشرة والاستفتاء، أن “هناك العديد من الأسباب التي تُعيق تطبيق الديمقراطية المباشرة في المجتمعات الحديثة، بسبب ما يأتي معها من تكاليف ومخاطر عالية. وعدا عن احتمال إشعالها لفتيل الصراعات، فإنها قد تكون مشحونة بالانفعالات أيضا”.

ويرى يونّينغ أنه “حيث تقتضي الديمقراطية المباشرة أصوات الناخبين ومجالس الشعب على المستوى الوطني أكثر من مرة، فإن تكاليفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ستكون هائلة. وقد تؤدي بالأخص إلى التسييس المُفرط للمجتمع، مما يُسفر عن هيمنة السياسة على كل شيء آخر”، معتبرا أنه “في حقيقة الأمر، تمثل الديمقراطية المباشرة لعبة محصلتها صفر، وأداة تعمل على تفاقم الصراعات الاجتماعية. فهي تقسِّم المجتمع بين الأغلبيات والأقليات. وهذه الأخيرة، سوف تجد مناصبها، ومصالحها، وحقوقها عُرضة للقمع الدائم، وبالنتيجة، تجنح الديمقراطية المباشرة إلى إحداث البلبلة والتعصب والظلم”.

فرض نظرية جديدة لحكم أي بلد يتطلب وجود زعامة سياسية مستعدة لتحمل مسؤولياتها كاملة عن النتائج

ويتابع الباحث أنه “وبالعودة إلى التاريخ، نرى أن مثل هذه الديمقراطية، وبِمجرد وضعها موضع التنفيذ، قد تعرضت إما إلى الخَنق على يد عدوان خارجي وحرب أهلية، أو إلى السَحق على يد أحد الطغاة، أو أنها انهارت عندما أصبحت الدولة التي تطبقها تابعة لقوة عظمى، وفي نظام الإكليزيا هذا، وحتى على افتراض أن كل مواطن هو سقراط، فلن يكون تجمُّع المواطنين على نَمَط أثينا القديمة أكثر من تجمهُر غريب. وعلاوة على ذلك، تفتقر الديمقراطية المباشرة إلى الإجراءات، وتعزز التماثل الصارم. وتؤدي إلى الاستبداد وتقييد المجتمع”.

والمسألة الأخرى، وفق يونّينغ، هي أن “هذا النوع من الديمقراطية يطالب جميع المواطنين برأي واضح لا لَبس فيه – إما نعم أو لا – وهو ما يدعو إلى التطرف في جميع المسائل غالبًا”.

وفيما تفرض الديمقراطية المباشرة المشاركة، كما تتطلب تفاني المواطنين المُطلق للدولة، فإنها تحرم الأفراد – بشكل مُقنَّع – من حقهم في التعامل مع شؤونهم الشخصية، كما أنها لا تسمح بالتمييز بين ما هو خاص وعام؛ فهي تطالب المواطنين بالمشاركة في الشؤون العامة بصفتهم الفردية، وتتحدى مصالح المجتمع المدني والمؤسسات الوسيطة، وتفتت المجتمع، وتطالب الأفراد بمواجهة الدولة بشكل مباشر، وبسبب أسلوبها المباشر في صنع القرار، تَستَثني الديمقراطية المُباشرة الإجراءات والطبقات الوسيطة، وتسفر عن الافتقار إلى آلية لتصفية الرسائل والآراء، مما يفسح المجال بالتالي للتلاعب والطرح الانفعالي، فيما يعني انعدام وجود آلية للتصحيح في إجراءات الديمقراطية المباشرة، أن الجمهور المُندفع وبِمُجَّرد هيمنته على الصالح العام، سيحفر قبر هذا الأخير لا محالة في نهاية المطاف.

كما يشير الباحث إلى أن الديمقراطية المباشرة تتناقض مع الجمهورية أيضًا، ففي الديمقراطية المباشرة، غالبًا ما يعني “الشعب” مفهومًا للاستئثار، إذ يمكن العثور دائمًا على أطراف تم استبعادها. وفي اليونان القديمة، كان النساء والعبيد من المُستثنين من هذه العملية. ومع أنها تَعِد بالاستقلال الذاتي لجميع المواطنين، لكنها ليست سوى حكم الأغلبية في الواقع، بالنظر إلى وجود أقلية يقابل رأيها بالرفض بَعد كل عملية اقتراع.

ويحتاج فرض نظرية جديدة لحكم أي بلد لكثير من الشروط أهمها سيطرة النظام الحاكم على الأوضاع بشكل تام، ووجود زعامة سياسية مستعدة لتحمل مسؤولياتها كاملة عن مخرجات تلك النظرية مع قدرة على كتم الأصوات المخالفة التي قد تؤدي إلى انشقاق داخل المجتمع، واكتفاء مالي واقتصادي يساعد على تجاوز نتائج الفشل في حال حصوله، وإلى تحقيق تطلعات وطموحات الفئات الداعمة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، وإلى قدرة على إقناع الشركاء الإقليميين والدوليين بجدوى المغامرة حتى لا يتم النظر إلى ذلك النظام بأنه نشاز في محيطه، وإلى الاستعداد لمواجهة، ما يصفها الباحث المصري أكرم القصاص بالطبيعة التاريخية والبنيوية للسلطة في الإقليم والتي لا تقبل بوجود كِيان مرجِعي لها من خارج مركزها، إضافة إلى التراث السياسي الحضاري الإسلامي، الذي يُفَضِّلُ النظام الشوري التمثيلي (الممثل في أهل الحلّ والعقد) على التشاركي المباشر، حيث يلتقي مع الديمقراطية العِلمانية في هذه النقطة تحديدا.

أما بالنسبة إلى الديمقراطية المباشرة، أو التشاركية، فهي في حد ذاتها استثناء على مستوى العالم، وحتى نموذجها المحرّف في سويسرا يعتمد على إرث تاريخي يعود إلى القرن الرابع عشر، ويستفيد حاليا في تطبيقه من الوعي الاجتماعي والرخاء الاقتصادي وعلى ثقافة القبول بالآخر مهما كان مختلفا، وهو ما لا نكاد نجده في مجتمعاتنا العربية، ومن بينها تونس.

ويحتاج هذا النوع من الديمقراطية إلى ثقافة ديمقراطية حقيقية وتوفر مجتمع مدني قوي وفعّال وإلى الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، وتحرير المجتمع من هيمنة مراكز النفوذ الاقتصادي والاجتماعي ومن العقلية الانتهازية القادرة على التغلغل في أي مشروع جديد، والتخلي عن العصبيات وترسيخ ثقافة العمل والإيثار بدل انتظار الحلول الجاهزة، وكذلك إلى عدم تحويل الديمقراطية المباشرة إلى منصة متقدمة للشعبوية، أو إلى أداة لتكريس استبداد من نوع جديد قد يكون أخطر من دكتاتورية الزعيم الأوحد والحزب الواحد.

العرب