قراءة الشيخ البياتي للواقع العراقي صريحة ومباشرة وخالية من المجاملات. وهي تعبير صادق عن تصوّر يوافق عليه العديد من العراقيين العرب السنّة، حيث الضرر الذي يطال العراق يأتي من مصدرين، إيران والإرهاب، مع التشديد على أن المصدر الأول، أي إيران، هو الأكثر إيذاءاً وخطراً بل هو كذلك المتحكم، أو أقلّه المتلاعب، بالمصذر الآخر، أي الإرهاب.
وبالإمكان استبدال بعض المفردات لإعادة صياغة هذا التصور بما ينسجم مع ما هو شائع في شقّ آخر من البلاد. فلو وضعنا «الوهابية» مكان إيران، و «الديمقراطية» مكان الولايات المتحدة، و «الفساد» مكان الإرهاب، لحصلنا على ما يقارب الصيغة الأكثر تداولاً في أوساط عراقية شيعية. إذ الوهابية، وفق هذا الطرح، استفادت من قدوم الديمقراطية ولكنها اجتهدت لتطويقها وإفشالها، وساعدها بذلك الفساد الطارئ على بنى الدولة العراقية الناشئة.
ثمة درجة عالية من التوافق بين القراءتين على توصيف تركيبة المعضلة العراقية، وإن ترافق ذلك بخلاف واضح حول تسمية العوامل. فالقراءتان تؤكدان ضمناً وعلناً على سلامة أولية للحالة الاجتماعية والثقافية العراقية، وتشيران (كل في اتجاه) إلى عامل خارجي أعلّها، بل أصاب أحد مقوماتها بداء عضال. فإيران، في القراءة الأولى قد استولت على الشخصية العراقية الشيعية وسخّرتها، وكذلك فعلت الوهابية في المقابل السنّي وفق القراءة الثانية.
وكلتا القراءتين تتحدث كذلك عن طارئ خارجي آخر، ملتبس في تقييمه بخلاف العامل السابق الواضح بضرره. فإدانة التدخل الأميركي في القراءة الأولى مقيّدة بإحسان ظنّ قد امتنع فعلياً ولكنه ما يزال ممكناً، فيما الإشادة بالديمقراطية، والتي استجدت بفعل التدخل الخارجي، في القراءة الثانية، يشوبها غالباً اقتناص سوء النوايا لدى المعارض للأكثرية (أي العراقيين الشيعة ككمّ آحادي) بالإضافة إلى التشكي ممّا يصاحبها من الفوضى والتفريط بهيبة الدولة.
وتتضمن كل من القراءتين إقراراً أقل جهورية حول داء أصاب الجزء السليم من المجتمع العراقي، فالشق السني في القراءة الأولى قد اعتراه بعض الإرهاب، فيما الشق الشيعي في القراءة الثانية قد تعرّض لجانب من الفساد. على أن هذا الداء يبقى عَرَضياً ولا ينفي جوهر الصيغة المطروحة.
فإن شئنا أن ندفع هاتين الصيغتين إلى المزيد من المجاهرة، وإن على حساب التحفظ الذي يقتضيه العرف، فباستطاعتنا اختصار كل منهما كما يلي:
«نحن بناة الوطن، وصدام حسين وإن قسا، فإن شدّته عادت بالفائدة على الوطن، ومنعت استيلاء إيران المتربصة به. أما اليوم، فإيران دون وازع، والعراقيون الشيعة في قبضتها، وما الإرهاب إلا ردة فعل على الإقصاء الذي يمارسه أعوانها، سالفهم وحاضرهم».
«نحن الوطن، نحن الأكثرية ولن نرضى بحكم الأقلية بعد اليوم، والوهابية التي قتلت بالأمس عادت اليوم لتتأصل ولتقتل من جديد، والعراقيون السنة في قبضتها، وما إبعاد ساستهم عن دوائر القرار إلا ردة فعل على الإفساد الذي يمارسونه، في الظاهر والباطن».
والسرديات، وإن قامت على إضفاء أوزان متفاوتة لوقائع مختلفة، هي وجهات نظر يختلط فيها الاعتبار بالرأي والهوى بالسجال، فهي حقّ لصاحبها. غير أن بعض الملاحظات واجبة، وهي تنطبق على السرديتين معاً.
الملاحظة الأولى هي التراجع الفعلي من الإطار الوطني إلى الإطار الفئوي.
شهدت المرحلة الماضية استسهالاً في الإشارة إلى العراق كمجموعة مكوّنات (أو أطياف)، بل في اختزال هذه المكونات إلى ثلاثة فاعلة سياسياً، الشيعة، والسنة العرب، والأكراد (مع الإشارة عند استفاضة الكرم الخطابي إلى الأقليات من التركمان والمسيحيين واليزيديين والصابئة والشبك). ولا شك أن أوساط واسعة من المجتمع العراقي ترى في أحد هذه المكونات الثلاثة ملاذاً لهويتها، بعد سقوط الهوية الوطنية الجامعة، وهو سقوط تجتهد الأغلبية بإنكاره في العلن.
إلا أنه في هذا الاستسهال قدراً من التعسف إذ يسطّح التضاريس الثقافية والمناطقية والطبقية وغيرها ضمن كل من هذه الأطياف، وهو أيضاً، وهنا موطن الضرر الأكثر حدة، يجحف النسبة الكبيرة من العراقيين من جيل ما قبل السقوط والتي لا يمكن إدراجها حصرياً ضمن إطار هذه الأطياف، سواءاً لأصولها غير الأحادية، من خلال التزاوج والتساكن وغيرهما، أو لخروجها الطوعي منها نحو الهوية العراقية التي تشكّلت وتعزّزت خلال العقود الماضية.
فالهوية الجامعة، والتي استولى عليها النظام الاستبدادي السابق ليختزلها بالثورة، والثورة بالحزب، والحزب بالقائد، وصولاً إلى إسقاطها مع الإطاحة بهدا القائد، ليس لديها اليوم من يناصرها خطابياً. بل الغلبة للهويات الفئوية التي أمست تبدو أصيلة بعد أن أضفت عملياً وإن دون تصريح على الهوية الوطنية الجامعة سمة الطارئة أو الهجينة.
فالمتكلم في السردات المتداولة هو «العراقيون العرب السنة» أو «العراقيون الشيعة» كشخصية معنوية، في انتقال واضح من الإطار الوطني إلى الإطار الفئوي.
الملاحظة الثانية هي استدعاء ما تبقى من الهوية الوطنية لتعزيز الموقف الفئوي. فالضمني والصريح في السردية الفئوية هي أن «جماعتنا» من حيث الرؤية والمصالح مصطفّة مع كامل الوطن، أما «جماعتهم» فخارجه، وعليه، فإن سائر مكوّنات الوطن معنا في مواجهتهم. وفي هذا الاستدعاء إقرار قسري، على لسان «الأقليات» المجيّشة، لملكية الجماعة المعنية للوطن. ففتوى الإمام السيستاني بالجهاد الكفائي لمواجهة خطر تنظيم الدولة هي فتوى وطنية، كما أن «جيش رجال الطريقة النقشبندية» (فبل انقضائه في ظل تنظيم الدولة) هو وريث الجيش الوطني. وهنا، كما هنالك، إعادة تشكيل للعلاقة بين الجمعات بعيداً عن المواطنة باتجاه الذمية.
والملاحظة الثالثة هي في عدم استعراض الإشكالات الداخلية في المجتمع العراقي، كمثال عن مجتمعات المنطقة، لاستشفاف أصول ما أصابه من اعتلال. والحاجة لمعالجة هذا التقصير ماسة.
والملاحظة الرابعة، وربما هي الأخطر، هي غياب مظلومية الآخر إزاء إبراز مظلومية الذات. فما شهدته الأوساط العراقية الشيعية من تضييق وقمع في المرحلة الماضية، وما تشهده من تقتيل واستهداف إرهابي في المرحلة الحالية، غائب عن السردية «السنية»، وما شهدته الأوساط العراقية العربية السنية من تهميش وقمع وتعسّف كذلك غائب عن السردية «الشيعية». فالآخرون ظالمون وأشرار، ونحن مظلومون وأخيار، دون تعكير على هذه الثنائية أو تشويش لها.
وبانتظار عودة صادقة للسردية الوطنية الجامعة القادرة على النقد الذاتي، لربما في العمل على إدراك مظلومية الآخر المدخل لنقل المواجهة بين السرديتين من مجرد الإدانة إلى الشروع بحوار يرضى بالخلاف والاختلاف.