تواجه الولايات المتحدة خيارات حرجة لمواجهة النفوذين الروسي والصيني المتصاعدين، خصوصا في مجال الأسلحة السيبرانية والنووية والتقدم التكنولوجي، وهو ما يدفعها نحو مراجعة سياساتها واستراتيجيات تدخلها العسكري في العديد من الجبهات التي تخضع لمنافسة شرسة بينها وبين التحالف الروسي – الصيني، لتجنّب المواجهة العسكرية المباشرة وحماية الأراضي الأميركية من أي هجمات نووية أو مواجهات محتملة.
واشنطن – اتجهت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن نحو تغيير السياسة الخارجية للولايات المتحدة بالنأي بها عن صراعات الشرق الأوسط، عبر سحب قواتها التي كانت تنتشر في الجبهات التقليدية، والتركيز على جبهات جديدة تضمن لها التصدي للنفوذ الروسي والصيني المتصاعد، الذي أصبح يفرض تقاسما لمناطق النفوذ يحمي العالم من صراعات نووية.
وخلال انشغال واشنطن في العقد الماضي بمشكلات الشرق الأوسط وبتعزيز نفوذها في صراعات المنطقة، انشغلت موسكو وبكين بتطوير قدراتهما الدفاعية وتحقيق تقدم على مستوى الأسلحة النووية والسيبرانية، وهو ما يرى محللون أنه يرجح دفة القوى لصالح الصين وروسيا على حساب الولايات المتحدة، وصار يدفع واشنطن أكثر فأكثر نحو مراجعة سياساتها.
ويقول الخبير العسكري الأميركي ديفيد تي باين، الحائز على ماجستير في دراسات الأمن القومي من جامعة جورج تاون، إن هناك تهديدا متزايدا من إمكانية نشوب حرب على جبهتين مع روسيا والصين، وينبع ذلك من تفوقهما المتزايد على الولايات المتحدة في ما يتعلق بالأسلحة النووية، والنبض الكهرومغناطيسي والأسلحة السيبرانية.
مفاهيم بالية
الولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى استراتيجية كبرى تتصدى لتحالف الصين وروسيا المزدهر وتقسمه وتعطّله
على الرغم من التراجع العسكري الاستراتيجي المتزايد للولايات المتحدة، لا يزال العديد من صناع السياسة الأميركيين، إن لم يكن معظمهم، يعتقدون أن الولايات المتحدة هي أقوى قوة عسكرية على وجه الأرض، وقد تسببت هذه المغالطة في إهمال إعادة بناء الترسانة النووية الأميركية، وبناء نظام وطني شامل للدفاع الصاروخي، وتقوية الشبكة الكهربائية الأميركية لردع أي هجوم كارثي من قبل روسيا أو الصين.
ويشير باين نائب مدير العمليات القومية لمجموعة العمل حول الأمن القومي والوطني الخاصة بمواجهة هجوم النبض الكهرومغناطيسي في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية، إلى أنه يجب على القادة الأميركيين التخلص من مفهومهم المثالي الخاطئ عن عالم آمن أحادي القطب يتم فيه الاعتراف بالولايات المتحدة عالميا كأقوى قوة عظمى.
ويرى باين أن الواقع مختلف تماما، فالولايات المتحدة تواجه الآن خيارات صارخة ومحدودة وغير مريحة على نحو متزايد، وهي في حاجة ماسة إلى استراتيجية كبرى جديدة ذات تفكير استشرافي تتصدى لهذا التحالف المزدهر بين قوتين نوويتين عظميين وتقسمه وتعطّله.
وللردّ على معضلة الأمن القومي غير المسبوقة هذه وضمان بقاء الولايات المتحدة، يلفت باين إلى أنه يجب على القادة الأميركيين أن يستغنوا عن سعيهم للهيمنة، وهي استراتيجية كبرى فاشلة عفا عليها الزمن، ويستعينوا بدلا من ذلك باستراتيجية ضغط استراتيجي للقوات وتحقيق التوازن في الخارج.
ومن شأن استراتيجية الضغط الاستراتيجي أن تحقن دماء الأميركيين، وتحافظ على أموالهم إلى جانب مواردهم العسكرية المحدودة، وأن تعيد التركيز على الدفاع عن المصالح الأساسية والحيوية للولايات المتحدة. ومن شأن ذلك أن يقلل من مخاطر اندلاع حرب غير ضرورية مع خصوم واشنطن النوويين الكبار، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر أمانا، مع أمل أن يكون أكثر سلاما.
ومن شأن ضغط القوات الأميركية السعي إلى ضمان عدم هيمنة أي قوة كبرى على أوروبا وشمال شرق آسيا. ومع ذلك، فإنه سيجبر حلفاء الولايات المتحدة على تحمل العبء الأمني الرئيسي في مناطقهم، والاعتماد على القوى المحلية لتحقيق التوازن مع القوى الإقليمية المهيمنة مثل روسيا والصين.
ومن شأن استراتيجية تحقيق التوازن في الخارج أن تعيد حرية العمل الأميركية لاختيار الحروب التي ستشارك فيها والحروب التي يجب تجنبها، بالنظر إلى أن مثل هذه الحروب يمكن أن تتصاعد بسرعة وبشكل غير متوقّع إلى المستوى النووي.
يقول المحلل الأميركي إنه بناء على كلّ ما سبق، ومن أجل الحدّ من الخطر المتزايد لتورط الولايات المتحدة في حروب بين القوى العظمى التي من شأنها أن تزيد من تعريض واشنطن لهجوم نووي، يجب أن تسحب قواتها العسكرية من أوروبا وأفريقيا وآسيا، بما في ذلك الشرق الأوسط.
كما أنها ستمتنع عن غزو واحتلال بلدان أخرى أو الانخراط في مساع لبناء الدول. ولن ترسل الولايات المتحدة قوات استطلاعية إلا إذا كانت الدول الواقعة في منطقة نفوذها أو تلك التي تشكل مصالحها الحيوية، مثل أوروبا الغربية واليابان، مهددة بهجوم وشيك من العدو. وقد يكون هناك استثناء للإبقاء على عدد محدود من القوات الأميركية منتشرة في ألمانيا كوسيلة لردع العدوان الروسي المحتمل على أوروبا الغربية، اعترافا بالأهمية الفريدة التي تتمتع بها هذه المنطقة بالنسبة للاقتصاد والصناعة الأميركية.
ومن شأن تقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج أن يزيد من تقويض الدعم للإرهاب المناهض للولايات المتحدة، والأهم من ذلك، من شأنه أن يقلل إلى حدّ كبير من الزخم الذي يدفع روسيا والصين إلى التحالف مع بعضهما البعض لتحقيق التوازن ضد الولايات المتحدة. وكجزء من هذه الاستراتيجية، سوف تتخلى الولايات المتحدة أخيرا عن حربها العالمية الفاشلة على الإرهاب، والتي أهدرت تريليونات الدولارات في خوض حروب عقيمة ضد التمرّد في الشرق الأوسط، وفقا لباين.
وبدلا من ذلك، وبعد عقدين من التشتت الذي تفوقت فيه روسيا والصين على قدرات الولايات المتحدة في كل مجال رئيسي تقريبا من مجالات التكنولوجيا العسكرية الاستراتيجية، ستسعى الولايات المتحدة أخيرا إلى تحديث وإعادة بناء ترسانتها النووية الاستراتيجية وقدراتها الدفاعية الاستراتيجية.
وقد تحقق منطقة نفوذ عالمية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين نجاحا مماثلا للعالم بأسره. وقد أفصح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارا عن أن أحد أهداف سياسته الخارجية الرئيسية هو إبرام اتفاقية “يالطا جديدة”. وفي إطار مثل هذا المخطط، سوف ينقسم العالم إلى مناطق، لكلّ منها هيمنتها الإقليمية، بهدف رئيسي هو تعزيز استقرار القوى العظمى والسلام.
وبموجب مثل هذا الاتفاق، ستحتفظ الولايات المتحدة بأكبر منطقة نفوذ، بما في ذلك نصف الكرة الغربي بأكمله، وأوروبا الغربية، واليابان، وأستراليا، ونيوزيلندا، والتي ستظل محمية بـ”المظلة النووية” الأميركية.
وسوف تشمل منطقة النفوذ الروسية الجمهوريات السوفييتية السابقة وصربيا وإيران والعراق وسوريا وليبيا. وقد تتكون منطقة نفوذ الصين من كوريا الشمالية وتايوان وبحر الصين الجنوبي وباكستان وأفغانستان والدول الماركسية/الشيوعية الأربع في جنوب شرق آسيا وحوالي ست دول أفريقية يقودها حاليا حكام ماركسيون/شيوعيون.
وإذا وافق القادة الأميركيون على مثل هذه الخطة والالتزام بعدم نشر أي قوات أميركية في أوروبا الشرقية، إلا في حالة العدوان الروسي، فإن روسيا، بعد أن حققت هدفها المتمثل في تحقيق الأمن العسكري على طول حدودها الغربية، قد تحوّل تركيزها شرقا نحو التهديد المتزايد للصين.
ويقول باين إنه ينبغي على القادة الأميركيين أن يبلغوا موسكو وبكين بشكل عاجل على الفور بأن بلادهم لن تتدخل عسكريا في أي حروب محتملة حول تايوان أو الجمهوريات السوفييتية السابقة، والتخلي بشكل أساسي عن التدخلات العسكرية الأميركية المستقبلية في مناطق نفوذهما.
ومن شأن مثل هذه الإجراءات أن تعزز الأمن القومي الأميركي وتقلل إلى حد كبير من فرص وقوع هجوم من قبل روسيا والصين على الولايات المتحدة من خلال الحدّ من التهديد المتصور لموسكو وبكين مع زيادة احتمال حدوث انقسامات وشقاق بينهما، مما قد يؤدي إلى انقسام وتعطيل تحالفهما مع مرور الوقت.
العرب