يتصدّر عنوان الحرب الأهلية أجندة المراكز الإعلامية اللبنانية، بعد كل حدث اجتماعي أو سياسي ذي طبيعة تنافسية أو صدامية، كما حدث قبل بضعة أيام بعد الأحداث المأساوية التي أسفرت عن مقتل مدنيين لبنانيين. كما تخوّف بعضهم من عودة أجواء الحرب الأهلية بعد اندلاع انتفاضة 17 تشرين (2019) السلمية والمدنية، على الرغم من طابعها المعارض لمجمل المنظومة الطائفية المسيطرة على الدولة والمجتمع، أي لم تكن الانتفاضة ذات اصطفاف طائفي مع هذا الفريق أو ذاك، كما لم تملك أدوات العنف الضرورية لأي حربٍ أهلية، كي تتحوّل إلى طرفٍ من أطراف الحرب الأهلية. في كل الأحوال، يمكن فهم المخاوف اللبنانية من استعادة أحداث الحرب الطائفية، بعد كل متغير سياسي أو اجتماعي، إيجابيا كان أم سلبيا، نظرا إلى هول تجربة الحرب الطائفية، وبسبب ترهل الدولة وتوغل الطائفية في مؤسساتها ودوائرها، وبحكم تعدّد القوى الطائفية المسلحة، ومجاهرتها بإمكانية استخدامها السلاح في حل النزاعات الداخلية، ونظراً إلى الفوضى والتوترات الإقليمية. وبسبب أهداف الانتفاضة الوطنية والإنسانية والتقدّمية التي تهدّد سيطرة مجمل المنظومة الطائفية، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
لكن، وبغض النظر عن ماهية الأحداث التي تستدعي مخاوف تجدّد الحرب الأهلية، لا بد من التدقيق في الظرف اللبناني والإقليمي والدولي، كي نحاول مقاربة الواقع، وفهم انعكاساتها وتحديد إمكانات عودة الحرب الأهلية من عدمها في قادم الأسابيع والأشهر. فعلى الصعيد الداخلي اللبناني، نلحظ اضمحلال مؤسسات الدولة السيادية والخدمية، في مقابل تضخّم دولة حزب الله، حتى بات بعضهم يعتبر الحزب بمثابة دولةٍ داخل الدولة اللبنانية، في حين اعتقد أننا أمام ابتلاع الحزب الدولة اللبنانية، فالحزب هو السلطة المسيطرة أمنيا وميدانيا واقتصاديا وسياسيا، بل وحتى خدميا. ولنا بالكيفية التي استقدم بها الحزب صهاريج المشتقّات النفطية من إيران عبر سورية، وكيف أمّن الحزب مولّدا كهربائيا من أجل انعقاد جلسة مجلس النواب. وعليه، ليس هناك أي مجال للمقارنة بين قدرات حزب الله وإمكاناته ونفوذه من ناحية وأي من مكونات المنظومة الطائفية الأخرى، فالفرق شاسع والتنافس منعدم حاليا، الأمر الذي يقلّل من احتمالات الحرب الأهلية التي تتطلب قوتين طائفيتين متقاربتين في الإمكانات، بالحد الأدنى.
تظهر المؤشرات الإقليمية والدولية أننا مقبلون على مرحلةٍ سوف تشهد تنظيم الدور الإيراني إقليميا، بما يتوافق مع المصالح الأميركية
ونجد على المستوى الإقليمي تراجعا واضحا في الدور السعودي في كل من العراق وسورية وليبيا ولبنان، ونسبيا في البحرين واليمن؛ مقابل تقدّم إماراتي نسبي في الأخيرتين؛ حيث يعتقد بعضهم أن السعودية هي القوة الإقليمية المهيأة والقادرة على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، فهي تملك مفتاح تصعيد الأوضاع، عبر دعم طرف طائفي في مواجهة حزب الله، غير أن الواقع الإقليمي واضحٌ تجاه سعي السعودية نحو مصالحة أو هدنة إقليمية مع إيران، حتى في اليمن، المنطقة الأخطر على أمن السعودية الداخلي، فضلا عن انسحابها شبه الكامل من الساحتين، العراقية والسورية، ما جاء في وقت سابق لمصلحة إيران تحديدا. في حين لا تبدو القوى الإقليمية الأخرى مهيأة اليوم كي تتصدّى للنفوذ الإيراني في لبنان، أو في مجمل المنطقة، ربما باستثناء تركيا التي تملك قدراتٍ وخبراتٍ وقوةٍ ناعمةٍ قد تمكّنها من لعب هذا الدور نظريا، في حين نجد أن الظروف التركية الواقعية، من حيث تصاعد الفوضى الإقليمية والدولية وتشابك مصالح تركيا مع إيران وروسيا وأميركا والاتحاد الأوروبي، ومن حيث أولويات المصلحة التركية في المنطقة، تجعل من بوادر التدخل التركي العسكري في الساحة اللبنانية أمرا مستبعدا في المرحلتين، الراهنة والقريبة، من دون استبعاد احتمال تدخلها سياسيا وإعلاميا. وبالتالي، لا يوجد طرف إقليمي وازن، له مصلحة في إثارة حرب أهلية لبنانية طاحنة في الأمدين، القريب والمتوسط.
وأخيرا، لا يمثل لبنان ساحة صراع دولي بين القوتين الأكثر بروزاً اليوم، أميركا والصين، كما لا يبدو النفوذ الإيراني في لبنان مقلقا للمخططات الأميركية في المنطقة والعالم، بل على العكس تظهر المؤشرات الإقليمية والدولية أننا مقبلون على مرحلةٍ سوف تشهد تنظيم الدور الإيراني إقليميا، بما يتوافق مع المصالح الأميركية، الدولية والإقليمية، كما يوحي لنا التقارب الإيراني مع كل من السعودية وقطر وتركيا، وعودة إيران المتوقعة قريبا إلى مباحثات فيينا النووية. وعليه، ينحو الوضع الدولي نحو تخفيض التوترات الإقليمية وفق رغبة أميركية مباشرة، أو نتيجة تخوّفات القوى الإقليمية من تبعات تراجع الدور الأميركي إقليميا، ومن تبعات الصراع الأميركي – الصيني على المنطقة أيضا، الأمر الذي يقلّل من احتمالات الحرب الأهلية اللبنانية من زاويةٍ دوليةٍ أيضا.
لم تكن الأحداث الدامية التي شهدها لبنان مقدّمة لعودة الحرب الأهلية، وإنْ حملت شكل المواجهة الطائفية
من ذلك كله، نجد أن الظرف والوضع اللبناني والإقليمي والدولي غير مهيأ لدعم حرب أهلية لبنانية أو إشعالها، في المديين، القريب والمتوسط، بل تبدو مسألة سيطرة حزب الله على لبنان محسومةً لمصلحته في مجمل حسابات النظام العالمي والإقليمي، وبالتالي في حسابات القوى الطائفية اللبنانية التي تتجنّب، وسوف تتجنّب، مواجهة الحزب في ظل هذه الظروف. من هنا، لم تكن الأحداث الدامية التي شهدها لبنان مقدّمة لعودة الحرب الأهلية، وإنْ حملت شكل المواجهة الطائفية، بل هي اشتباكاتٌ ناتجةٌ عن حالة الاحتقان والتوتر السياسي الحاصل بين الحراك الشعبي والمنظومة الطائفية، احتقان دفع بجهوزية المكوّن العسكري الطائفي؛ الحزب خصوصا؛ إلى أعلى درجاتها. وعليه، ربما خرجت الأمور عن السيطرة قليلا بين مسلّحي القوى الطائفية في الميدان، وربما هي مجرّد مسرحية مقصودة غرضها إرهاب الشارع وإعادته إلى القمقم الطائفي.
قد تتكرّر مشاهد المناوشات والاشتباكات الطائفية اللبنانية، المحدودة زمنيا ومكانيا مستقبلا، في ظل استمرار الخطر المحدق بالنظام الطائفي المسيطر، المتمثل في الحركة الاحتجاجية الشعبية، لكنها لن تتطوّر إلى حرب أهلية منفلتة وخارجة عن السيطرة، لأننا نشهد صراعا محتدما بين منظومتين متناقضتين: طائفية تحتكر العنف وأدواته، وشعبية وطنية ذات طبيعة سلمية، تمتلك الوعي والإصرار والأمل بغد أفضل لها وللأجيال اللاحقة، ولا تملك السلاح ولا ترغب بامتلاكه أصلا.
العربي الجديد