لم تبتعد منطقة جنوب القوقاز يومًا عن حسابات الأمن والاستراتيجية الإيرانيتين، إلا أن العام المنصرم أتی باستحقاقات لم تعهدها إيران في تلك المنطقة منذ أکثر من عقدين. فمنذ أن خاضت أذربيجان حرب تحرير قرةباغ -المنطقة المتنازع عليها التي بقيت تحت احتلال أرمينيا لما يقارب ثلاثة عقود- ظهرت بوادر تشير إلی تغييرات لا تتوقف عند إعادة رسم الحدود بين الدولتين بل تتعداها لتأتي بثقل الجيوبوليتيك بتوازناته الإقليمية والدولية لتعيد إنتاج توازنات تدفع باتجاهها بعض دول المنطقة ويقف أمامها بعضها الآخر. بقيت إيران تعتبر قرةباغ إقليمًا أذريًّا محتلًّا رغم حيادها المعلن في الصراع بين الدولتين. وعند بدء الحرب الأخيرة في خريف 2020 أبقت إيران علی الحياد الرسمي رغم قولها بأذرية الأراضي موضع الخلاف -وهو ما امتعضت منه يرفان واعتبره البعض موقفًا لا يتماشی وحيادها-. تضمَّنت الوثيقة الواضعة لأوزار الحرب الأذرية-الأرمينية بندًا ينص علی ربط الأراضي الأذرية الرئيسية بإقليم نخجوان -الإقليم المفصول عن أرض أذربيجان الرئيسية والمجاور لإيران وأرمينيا-. ومع بدء شكوى إيران من التضييق الأذري على الشاحنات الإيرانية المتوجهة لأرمينيا في الأشهر الأخيرة، بدت بوادر أزمة جديدة تطفو علی سطح المياه العکرة للحرب الأخيرة والوثيقة آنفة الذکر. فما أبعاد الأزمة الأخيرة؟ وهل نحن إزاء إعادة تموضع إقليمي في القوقاز الجنوبي؟ نحاول في هذه الورقة الإجابة عن تلك الأسئلة وبيان الموقف الإيراني حيالها.
صراع متجدد
عندما وضعت الحروب الروسية-الإيرانية في القرن الثامن عشر أوزارها، أفاق الإيرانيون علی معاهدتين ما زال ذکرهما يُثقل قلوبهم. ففي معاهدتي کلستان (1813) وترکمانتشاي (1828)، تنازلت إيران القاجارية عن المزيد من أراضيها أمام القوة الروسية الصاعدة. ومن أهمها تلك الواقعة إلی الشمال من نهر أرس -أي منطقة جنوب القوقاز-. بسيطرة روسيا علی القوقاز ودخول إيران مراحل عصيبة في تاريخها الحديث من تدخلات وحروب واحتلالات وانقلابات، جرى ترسيخ الحدود التي طالما اعتبرها الإيرانيون حدودًا مفروضة وجب تغييرها عند الإمکان. ورغم رؤية البعض تحلُّل الاتحاد السوفيتي فرصة لإعادة أراضي جنوب القوقاز لإيران، إلا أن طهران آثرت دعم الحکومات المحلية في تلك المنطقة لتصبح دولًا مستقلة. وبدعمها تلك الدول ووقوفها موقف الحياد الفعَّال في الصراعات فيما بينها، زادت حظوة ومکانة طهران لدى تلك الدول وأصبحت إيران شريکًا اقتصاديًّا وسياسيًّا قريبًا للغريمين الرئيسيين في تلك المنطقة، أذربيجان وأرمينيا. وکان حيادها الفعال کفيلًا بثني الدولتين عن معاداتها أو الاقتراب من أعدائها.
والحياد الفعَّال بالنسبة لطهران هو عبارة عن عدم المبادرة في التدخل ضد طرف بعينه في جنوب القوقاز مع محاولة الحفاظ علی التوازن قائمًا بين دوله لمنع التدحرج نحو الأزمات الأوسع في حال محاولة إحداهما الإخلال بالتوازن القائم، وهي السياسة التي أنتجت مواقف تبدو متباينة لكنها تحمل الحفاظ علی التوازن ومنع احتدام الحرب في صميمها کمحور رئيسي. ففي الحرب الأولى بين الدولتين في بداية التسعينات، ونظرًا لقوة أرمينيا العسکرية أمام أذربيجان، ارتأت إيران دعم الأخيرة لإعادة التوازن بين الدولتين مع الحفاظ علی الحياد الرسمي، أي عدم التدخل المباشر، کما قامت بتنشيط دبلوماسيتها لوقف الحرب. وکانت طهران تهدف لوقف إطلاق النار کخطوة أولی للخوض في مفاوضات تأتي بالسلام بين الدولتين. بذلك، ورغم اعتبارها التقدم الأرميني علی کاراباخ احتلالًا، إلا أنها قامت بجهود حثيثة لوقف إطلاق النار رغم احتفاظ أرمينيا بالإقليم المحتل.
أبقت إيران علی الموقف ذاته حتی حرب العام 2020 بين الدولتين، ولم تتغير الأولويات الإيرانية من ضرورة الإبقاء علی التوازن وإخماد فتيل الحرب، لكن ظهرت في الأعوام الأخيرة بوادر تغيير إقليمية أتت علی الحسابات الإيرانية وأنتجت تغييرًا في السلوك والخطاب. فقد أعلنت إيران أن قرةباغ أذرية ويجب إعادتها للسيادة الأذرية عبر الوسائل السلمية. ورغم استيائها من شنِّ أذربيجان الحرب بغية تحقيق ذلك، إلا أنها وبشکل عام لم تکن لتعارض الخطوة الأذرية نظرًا لعدم تجاوب أرمينيا مع المطالب الأذرية المتمثلة بحل الخلاف عبر الوسائل السلمية طيلة أکثر من عقدين من الزمن. والموقف ذلك لم يکن بعيدًا عن السياق المألوف. إلا أن انتهاء الحرب بالطريقة التي حصلت، أتت بمضاعفات لم يُخْفِ الإيرانيون امتعاضهم منها ومحاولتهم الحد من إسقاطاتها علی أمنهم وعلاقاتهم الإقليمية، کما علی الموازنة الإقليمية. فالقول بوصل الأرض الأذرية بإقليم نخجوان عبر شريط يمتد علی الحدود الأرمينية-الإيرانية، يعني فيما يعنيه سيطرة أذربيجان علی الحدود بين الدولتين وجعل علاقتهما التجارية والاقتصادية تحت تأثير الإرادة الأذرية.
ومن بوادر التصلب الأذري -حسب الرؤية الإيرانية- قيامها بقطع الطريق التجاري قوريس-قابان أمام الشاحنات الإيرانية ومطالبتها بدفع ضرائب لقاء المرور بل وسجنها لبعض سائقيها لمقاومتهم دفع الضريبة؛ وهو ما أثار الأزمة الحالية بين الدولتين. کما قامت السلطات الأذرية بإغلاق حُسينية الإيرانيين في باکو بحجة منع انتشار فيروس کورونا -وهو ما يعني إغلاقها مکتب تمثيل المرشد الأعلی الإيراني وذلك بشکل غير مباشر. کما تصاعدت اللهجة الرسمية ضد طهران وهو ما أتی بردود إيرانية تعدَّت المألوف من الكلام الدبلوماسي في بعض الجوانب. فقد أشار المرشد الأعلی الإيراني مثلًا، وفي تحذير مبطن، إلی سياسات أذربيجان قائلًا: “من حفر بئرًا لأخيه وقع فيها»(1).
تهديدات وديناميات جديدة
کان بالمقدور وضع إطار إقليمي يحد من سلبيات قضية الحدود إن لم تکن ثمة تشعبات لتلك القضية يتخوف الاستراتيجي الإيراني من إسقاطاتها علی أمن بلاده القومي وثقلها الإقليمي. فقد اتضح بعد حرب العام المنصرم أن للبُعد الإقليمي وقعًا أکبر من ذي قبل علی موازنة وحسابات دول جنوب القوقاز. فثمة اتجاهان لا تخطئهما الأعين الإيرانية المترقبة لتلك المنطقة عن کثب: زيادة التغلغل الإسرائيلي عبر البوابة الأمنية والعسکرية وزيادة الدور الترکي المنافس لإيران.
العدو الأول علی الحدود: بدأ تطور العلاقات الإسرائيلية-الأذرية منذ أعوام(2)، إلا أن مستوى الحضور الأمني والعسکري لإسرائيل في المرحلة الجديدة وصل لحدود يرى فيها الاستراتيجي الإيراني تهديدًا مباشرًا ومستمرًّا. وبينما کانت أذربيجان تؤکد سابقًا منع استخدام أراضيها ضد إيران(3)، يرى البعض أن تطور علاقاتها بإسرائيل أتی نتیجة للحرب الأخيرة إذ أدى استخدام السلاح الإسرائيلي لتفوق أذري تريد باکو تعزيزه وتثبيته للحفاظ علی الموازنة الإقليمية الناتجة عن تلك الحرب. وأيًّا کانت الدوافع الأذرية، تهتم إيران بالدوافع الإسرائيلية بشکل أکبر.
23الرئيس الأذري يداعب طائرة إسرائيلية من طراز هاروب خلال زيارة إلى مدينة جبرائيل بالقرب من الحدود الإيرانية (المصدر: الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية الأذرية)
تبحث تل أبيب عن تقريب المعرکة بينها وبين طهران إلی الحدود الإيرانية بعد أن قلَّص حضور “محور المقاومة” وحلفاء إيران علی حدود إسرائيل من أهمية الردع النووي. بالتالي، انتقلت إسرائيل منذ أعوام إلی محاولة موازنة سياسة “الاقتراب” و”التطويق” عبر الاقتراب من التراب الإيراني و”تطويق إيران”، کما يرى البعض(4). ومن أوجه الموازنة الإسرائيلية کانت اتفاقيات التطبيع مع بعض دول مجلس التعاون. أما الاقتراب الأمني والعسکري من الحدود الإيرانية عبر أذربيجان فهو مکسبٌ لا يضاهيه التطبيع مع العرب، حتی الآن علی الأقل؛ إذ يعطيها ذلك إمکانية الرصد واستخدام الأرض والسماء بشکل مباشر ضد طهران. لذلك يرى بعض الإيرانيين أن الحدود الأذرية أصبحت اليوم أخطر بوابة للعمل الإسرائيلي ضد إيران(5). فقد سبق أن استخدمت مثلًا الأراضي الأذرية للإعداد لاغتيال علماء إيران النوويين(6). ولم تعد تطمينات الرئيس الأذري بعدم وجود عساکر إسرائيليين علی أراضي أذربيجان تجدي نفعًا وهو يقف إلی جانب معدات عسکرية إسرائيلية ويستعرضها علنًا(7).
التنافس الاستراتيجي مع ترکيا: لم يکن لترکيا موضع قدم مؤثر في جنوب القوقاز حتی الماضي القريب. فالجغرافيا الوحيدة التي قرَّبتها من قضايا تلك المنطقة هي منطقة أرارات المحاذية لإقليم نخجوان الأذري بحدودٍ لا تتعدی بضعة کيلومترات، وهي أراضٍ قايضتها إيران بمنطقة أقل أهمية علی الحدود لقاء التعاون الترکي ضد التحرك الكردي إبَّان حکم رضا شاه في إيران. بوقوع الحرب الأخيرة، ظهرت ترکيا بدعمها العسکري والسياسي لأذربيجان کلاعب مؤثر في الصراع وذلك ضد الاستراتيجية الإيرانية المرکِّزة علی إبقاء التوازن قائمًا في تلك المنطقة. ولدعمها المستمر لباکو وعدم اکتراثها بالتوازن بين جارتي إيران، بدأت إيران ترى في الموقف الترکي ما يخلُّ بواقع مرتبط بشکل مباشر بأمن إيران القومي کما تراه طهران. ذلك بالإضافة لتعزيزها الموقف الأذري الفوقي حيال تقديم الحلول السلمية للخلاف بينها وبين أرمينيا، ما يعني بقاء الجمر مشتعلًا تحت رماد الواقع المفروض في جنوب القوقاز.
بالإضافة للتهديد الإسرائيلي والتحدي الترکي بإطار وثقل متجدد، ثمة ديناميات مستحدثة لها وقع علی الوضع الحالي ومستقبل الموازنة في جنوب القوقاز. فالعداء الروسي-الجورجي علی خلفية دعم روسيا استقلال جمهوريتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا قرَّب جورجيا من ترکيا وأذربيجان وهو ما قد يعني إکمالًا لحصار أرمينيا بعد قطع حدودها مع إيران، وهو ما تريد أذربيجان فرضه عبر المضايقات الجديدة. کما أنه يعني إمکانية منع وصل خطوط إيران التجارية بأوروبا دون المرور بأذربيجان أو ترکيا. لذلك، يمکن مشاهدة الحذر الأرميني في التعاطي مع اللغة الاستعلائية للرئيس الأذري أو التهديدات الترکية. أما روسيا، التي تشترك مع إيران في هدف الإبقاء علی التوازن في جنوب القوقاز، فهي لا تُبدي قلقًا من الهم الإيراني الأول، الحضور الإسرائيلي في تلك المنطقة. هذا، بينما تواجه مبادرة 3+3 المطروحة من قبل روسيا علامات استفهام حول إمکانيتها إدارة الأزمة. فلا تُبدي جورجيا حماسًا للجلوس مع الروس علی طاولة واحدة. ولا تبدو أذربيجان المدعومة ترکيًّا وإسرائيليًّا في وارد تقديم تنازلات بغية إنهاء العداء والدخول في سلم مع جارتها. أما روسيا وإيران، فتجتمعان علی إعادة الموازنة وتفترقان في المقاربات والرؤى الإقليمية.
الضرورات في النقاشات الإيرانية
إزاء الواقع الجديد والتهديد الإسرائيلي والتحديات الأخرى، تشتد سخونة النقاشات الإيرانية المفسِّرة للتطورات، من جهة، والباحثة عن حلول لها، من جهة أخرى. ورغم اتساع دائرة النقاش لتشمل التاريخي والجغرافي والسياسي، إلا أن الجانب الاستراتيجي حاز النصيب الأکبر من نقاشات الدوائر الاستراتيجية في إيران. ورغم أن السياق العام لتلك النقاشات لا يبتعد عن الحديث السابق عن ضرورة الحفاظ علی التوازن في جنوب القوقاز وإعادة الإستقرار لها، فقد طُرحت أيضًا محاور جديدة تُبدي التغيير في رؤية طهران والذي يعکس الواقع الجديد والمعقد في منطقة جنوب القوقاز کما تفهما إيران.
ضرورة إظهار القوة: کضرورة لمنع انجرار أذربيجان خلف تحالفات مجابهة لإيران، يرى البعض في إظهار القوة أداةً مؤثرة ورادعة. وبينما ينتقد البعض الآخر تلك الرؤية باعتبارها کفيلة بدفع أذربيجان في أحضان أعداء ومنافسي طهران الإقليميين، يرى أصحابها أن تقارب أذربيجان من هؤلاء اللاعبين أمر واقع ويجب البناء عليه في إظهار القوة بدل إنکاره والتريث، وهو ما سيزيد من تصلب موقف باکو وکلفة الردع المتأخر لها. بهذا يدفع هؤلاء نحو ضرورة إظهار القوة (power projection) کأساس للحد من تهديدات الخلل الذي أصاب موازنة جنوب القوقاز وأتی بلاعبين غير مکترثين بتلك الموازنة للقيام بأدوار قد تأتي علی أمنها واستقرارها. وإذ يشکك المنتقدون بحدود إظهار القوة وإمکانية الانتقال منها إلی استخدام القوة، يعتبر دعاة إظهار القوة أن الاستخدام المحدود للقوة عند الضرورة جزء من إظهارها -کحادث إسقاط المسيرة الأميرکية غلوبال هاوك أو قصف قاعدة عين الأسد مثلًا-. بمعنی آخر، يمکن الاستخدام المحدود للقوة إن ثبت عدم اکتراث باکو بإظهارها فقط. وتذهب رؤى أقلية إلی ضرورة بناء قاعدة عسکرية في جنوب أرمينيا في ذات السياق(8)، وهو ما يخرج عن التقاليد العسکرية للجمهورية الإسلامية. إلا أن إظهار القوة يبدو هدفًا يجری العمل به دون الانجرار خلف أطروحات متطرفة وهو ما بدا واضحًا من خلال مناورة “فاتحو خيبر” علی مقربة من حدود إيران وأذربيجان(9).
مقاومة القيود وتحييدها: للوقوف أمام أية سابقة قد تأتي بمزيد من المفروض علی العلاقات الإيرانية-الأرمينية وامتداداتها في أوروبا بالنسبة لإيران وما وراء إيران بالنسبة لأرمينيا، يجب -حسب النقاشات- مقاومة المستجد من مضايقات أذرية للتجارة والعمل الاقتصادي الإيراني مع أرمينيا ومنعها من وضع قواعد جديدة في المنطقة تحد من حرية العمل الإيراني في تلك المنطقة. وإذ ترى أقلية أن وضع القواعد الجديدة حق سيادي لأذربيجان إن أخذنا إعلان انتهاء الحرب بعين الاعتبار، يرى الطرف الآخر -وهو الأکثرية کما يبدو- أن القبول بأية قاعدة وُضعت دون أخذ مصالح الأطراف الأخری -ومنها إيران- محمل الجد سيفتح الباب لتغييرات قد تأتي في المرحلة المقبلة ليس علی المصلحة الإيرانية فقط بل وعلی أمنها القومي. ومن هنا، تجب مقاومة أي قيود جديدة وتحييد الجانب المرتبط بإيران من القواعد الجديدة التي يُراد فرضها کأمر واقع.
التحرك في إطار جماعي: للحد من الإسقاطات السلبية للواقع المستجد ولموجهة الأحادية في إطار يعارضها شکلًا ومضمونًا، يریى البعض أنه من الضروري نسج تفاهمات تأتي بالرؤى المشترکة کإطار أکثر فعالية وأمضی أثرًا. وبينما يشکك البعض الآخر بمدى إمکانية المشارکة مع الأطراف الإقليمية أو الدولية لعدم تطابق أهدافها وأولوياتها مع أهداف وأولويات إيران، يرى مؤيدوها أن اختلاف الرؤية لا يعني اختلافًا حول أجزائها وأنه يجب البحث عن المحاور المشترکة للتحرك الجماعي کالاتفاق مع روسيا حول إعادة الموازنة والحد من السلبيات الأمنية للواقع المستجد في جنوب القوقاز مثلًا. وکانت الأزمة الأخيرة أخذت حيزًا کبيرًا من مفاوضات وزير الخارجية الإيراني في موسکو ومفاوضات مساعده للأمور السياسة مع أنقرة.
منع التدحرج نحو الحرب: ثمة نقاش محذِّر من إمکانية التدحرج الإقليمي نحو الحرب إما بشکل نيابي أو مباشر. فمثلًا ثمة اتجاه يرى أن الدول الأجنبية تريد توريط إيران وترکيا في حرب استنزاف جديدة في جنوب القوقاز وأنه يجب تفاديها بأي شکل من الأشکال. کما تحاول إيران منع انزلاق أطراف الصراع الرئيسية -أرمينيا وأذربيجان- إلی الحرب لأسباب يجتمع فيها الأمن والاقتصاد وحسابات الجيوبوليتيك. ويحذِّر دبلوماسي إيراني سابق من التدحرج نحو حرب إقليمية کالحالة السورية(10).
بشکل عام، ترکز النقاشات الإيرانية علی محورين يجمعان تحتهما مجموعة من النقاط التي تلخص الرؤية العامة لطهران: أولًا: ضرورة الحد من الإسقاطات الأمنية للأزمة علی أمن إيران القومي. وثانيًا: ضرورة إبقاء العلاقات مع أطراف النزاع ولعب دور الموازن إن تطلَّب الأمر ذلك في المستقبل.
خلاصة
تصاعد التوتر في جنوب القوقاز علی خلفية خطوات أذربيجان للسيطرة العملية علی الحدود بين إيران وأرمينيا. ترفض إيران ذلك وتتعاطی مع الواقع المستجد من زاوية ضرورة الحفاظ علی التوازن في جنوب القوقاز، إلا أن أذربيجان المنتصرة في حرب خريف 2020 والمسنودة ترکيًّا والمسلَّحة إسرائيليًّا، کما يرى الإيرانيون، لا تعير التوازن السابق أهمية وتبحث عن تثبيت وضع مختلف تقع فيه حياة أرمينيا الاقتصادية -وعلاقاتها بإيران- رهن الإرادة الأذرية؛ وهو ما ترفضه طهران بشکل لا لبس فيه. ولأن المستحدث يحمل في طياته أبعادًا إقليمية تأتي بتهديدات جديدة، تحاول إيران الحد من سلبية الإسقاطات الأمنية عليها عبر إدارة الأزمة وعدم التدحرج نحو الصراع. ترى إيران في الحضور والدور الإسرائيلييْن المتصاعديْن تهديدًا مباشرًا ضد أمنها القومي، کما ترى في الدور الترکی المتزايد تحديًا يجب التعاطي معه عبر الحوار وتکثيف الدبلوماسية. وفي خضم الديناميات المستمرة في جنوب القوقاز، ثمة نقاش ساخن في إيران حول حيثيات تلك التطورات والسبل المثلی للتعاطي معها. وتتسع تلك الأطروحات لتشمل ضرورة إظهار القوة لردع أذربيجان من الدخول في أحلاف ضد إيران من جهة ومقاومة وتحييد القيود التي تحاول باکو فرضها علی العلاقات الإيرانية-الأرمينية من جهة أخرى. کما يرکز الإيرانيون في تلك النقاشات علی أهمية التحرك في إطار دولي جماعي مع الدول التي تشاطرهم الأولويات وذلك مع إيلائهم منع التدحرج نحو الصراعات في المنطقة أهمية قصوى نظرًا لإمکانية استغلال أعداء إيران وترکيا وروسيا لأزمات جنوب القوقاز والإيقاع بتلك الدول في حروب استنزاف لا تُحمد عقباها.
حسين أحمديان
مركز الجزيرة للدراسات