لا تقتصر طبيعة الخلافات بين إيران والسعودية على مجال واحد أو قضية بعينها، بل تتنوع لتشمل التنافس الإقليمي والمكانة والتأثير على مستوى العالم الإسلامي، إضافة إلى قضايا الطاقة وطبيعة العلاقات الخارجية وغيرها من العناوين التي تأتي محكومة بإطار أيديولوجي متباين في أفضليات وتوجهات السياسة الخارجية لدى كل منهما. ولم يكن قطع العلاقات الذي جرى قبل خمس سنوات بمشكلة عابرة في العلاقة بل كان مؤشرًا على أزمات يمكن تصنيفها بين المعقد والأكثر تعقيدًا، لكن هل هذا يعني انتفاء إمكانية إعادة العلاقات وبناء مجموعة من المصالح، والشروع برصف أرضية لبناء الثقة؟
يتنافس الجانبان ليكونا القوة الإقليمية الأكثر تأثيرًا، وتتجلى خلافاتهما في أكثر من ملف شائك في سوريا واليمن وفلسطين والعلاقة مع واشنطن وغيرها، ومع ذلك تُظهر تجربة العقود الماضية أن العلاقة بينمها قد شهدت محطات تعاون استراتيجي، ولذلك فإن الاحتمالية قائمة لإحداث تقارب قد لا يكون واسعًا وسريعًا ولكنه يقلص من مستوى الصراع للشروع بمحادثات وتسويات في بعض الملفات. لذلك، فالتقدم الذي حدث في محادثات الجانبين قد يكون مرتكزًا على إعادة العلاقات والسفراء بشكل أساسي.
استضافت بغداد خلال الأشهر الماضية أربع جولات من المحادثات الإيرانية-السعودية، التي شارك فيها مسؤولون أمنيون وسياسيون من البلدين، وكشف ما قاله ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، في أبريل/نيسان 2021، عن تحول واضح مقارنة بمواقفه السابقة، فبعد أن كان يهدد بنقل المعركة إلى داخل إيران، أشار في مقابلة بثها الإعلام السعودي إلى أن “المملكة تطمح إلى إقامة علاقة جيدة ومميزة مع إيران باعتبارها دولة جارة”. وتوالت تصريحات من الجانبين تؤكد حدوث المحادثات وتتحرى الحذر في الحديث عن التقدم الحاصل، وبدا واضحًا من هذه التصريحات أن المسار ما زال طويلًا للوصول إلى تسويات كبرى بين الجانبين. وهو ما نجده واضحًا في تصريح وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، بأن هذه المحادثات: “لا تزال في المرحلة الاستكشافية، نأمل أن تضع أساسًا لمعالجة المواضيع العالقة بين الطرفين وسوف نسعى ونعمل على تحقيق ذلك..”، فيما سبق لسعيد خطيب زادة، المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية أن أكَّد على إجراء بلاده محادثات مع السعودية ووضعها في مستوى “الجيدة”. وتوالت التصريحات الإيرانية التي تتحدث عن “تقدم”؛ حيث قال وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أثناء مؤتمر صحفي عقده في بيروت: إن الحوار بين إيران والسعودية بنَّاء و”يسير في الاتجاه الصحيح” ويصب في مصلحة البلدين والمنطقة عمومًا.
الواقع والمتخيل
وقد فتح الحديث عن “التوصل إلى اتفاقات معينة بشأن مواضيع محددة”، الباب لتحليلات وتعليقات تتحدث عن انفراجة كبيرة في العلاقات، دون أن تسند ذلك بمعطيات واقعية، واستند بعضها على تسريبات تتحدث عن اجتماعات بين مسؤولين كبار لم تحدث على أرض الواقع؛ ومن ذلك الحديث عن مشاركة علي شمخاني، الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي، وعادل الجبير، وزير الدولة للشؤون الخارجية في السعودية، والتوصل إلى اتفاقات وتبادل زيارات، بل إن بعضها تحدث عن مشاریع اقتصادية ضخمة.
وتنوعت قائمة “الإنجازات المتحققة وفق بعض التحليلات العربية”، “لتشمل وقف الدعم السعودي للمعارضة الإيرانية، والاستثمار السعودي في سوريا والعراق، وإنشاء طريق سريع دولي بين مشهد وكربلاء ومكة”؛ وهو ما دفع المحلِّل الإيراني، صابر غلعنبري، إلى تفكيك هذه التحليلات، ووصفها بأنها تستند إلى “بيانات غير صحيحة”، مسجلًا مجموعة من النقاط:
أولًا: الجولة الرابعة من المباحثات لم تكن بين شمخاني والجبير، وإنما بين رئيس الوفد الإيراني، سعيد عرفاني، نائب رئيس دائرة الأمن الدولي في المجلس الأعلى للأمن القومي، ورئيس الوفد السعودي، خالد حميدان، رئيس جهاز المخابرات.
ثانيًا: لم يقم أي وفد سعودي بزيارة إيران حتى الآن، وإنما جرى بحث تبادل الزيارات.
ثالثًا: اتفق الجانبان على الحاجة إلى إعادة فتح المقرات الدبلوماسية، لكن الوقت المحدد لإعادة الافتتاح لا يزال غير معروف.
رابعًا: اقترح مصطفى الكاظمي إنشاء طريق مشهد-مكة السريع، لكن ذلك لم يتجاوز مرحلة الاقتراح.
خامسًا: أثار الجانبان العديد من المخاوف والتظلمات بشأن مختلف القضايا في الجولات الأربعة من المحادثات، لكن المحادثات لم تدخل حتى الآن إلى جوهر العديد من هذه القضايا.
سادسًا: لم تسفر المحادثات حتى الآن عن أية نتائج مهمة في حل الخلافات، لكن الأجواء في المحادثات إيجابية والمسألة الوحيدة المهمة هي الاتفاق على استئناف العلاقات وضرورة وقف الهجمات الإعلامية الثنائية. أما ما جرى الحديث عنه بشأن وقف دعم المعارضة الإيرانية، والاستثمار في سوريا والعراق فهو لا يعدو تأويلات لا تستند إلى معطيات صلبة.
الأزمة اليمنية
منذ جولات المحادثات الأولى كشفت السعودية عن طلبها من إيران المساعدة في حل الأزمة اليمنية، وتدرك إيران جيدًا الحاجة السعودية المتعاظمة لهذا الحل ولذلك فهي تسعى بصورة حثيثة إلى تحقيق مكتسبات سياسة لحليفها “أنصار الله”، وتريد إيران بشكل واضح أن تجري المحادثات معها مباشرة، وهو ما يمهد مستقبلًا إلى مساحة أكبر للدور السياسي لأنصار الله في مستقبل اليمن وحكومته إذا ما جرى التوصل إلى حل سياسي. ولذلك، فإن الحل السياسي المنشود في اليمن تشترط فيه إيران جلوس اللاعب الحوثي عضوًا أساسيًّا وليس “محاربًا بالوكالة”، يقبل “ما تمليه عليه طهران” التي تريد أن تقف خلف الستار تراقب وتحرك وهو ما يعزِّز روايتها بأنها تدعم حلفاءها في اليمن لكنها لا تملي عليهم. وما زالت الاستراتيجية الإيرانية تجاه اليمن تقوم على شقين، هما:
الأول: تقديم نفسها دولةً قادرةً على لعب دور بنَّاء ومؤثر في صياغة حل سياسي في اليمن.
الثاني: دعم وحماية حلفائها وتمكينهم بشتى الوسائل للحيلولة دون إقصائهم من الساحة السياسية بالقوة.
ويمكن للشق الأول أن يعزز من قوة إيران ومكانتها في الساحة الإقليمية سياسيًّا، وهو مرتبط بصورة جذرية بالشق الثاني؛ إذ إن تحققه مرتبط بترجمة ثقل الجماعات المتحالفة مع إيران إلى مكاسب سياسية على الأرض.
وإذا لم يكن متاحًا لإيران تحقيق الشق الاستراتيجي الأول، فإن المحافظة على الشق الثاني حتى ولو تحقق على يد غيرها يعطي إيران أوراقَ تفوُّق على الساحة الإقليمية في مواجهة منافسيها، وخاصة المملكة العربية السعودية؛ وهو ما قد يفسِّر شكل الحل السياسي الذي تقترحه إيران. إن تعزيز قدرة الحركة الحوثية ودخولها إلى بنية السلطة يتسق بشكل واضح مع المنافع الإقليمية لإيران، واستثمار هذا التقدم وتوظيفه من شأنه أن يقوِّي موقع إيران في غرب آسيا وشمال إفريقيا.
خلاصات
إن أبرز ملمح في هذه المحادثات أنها تجري وفق الإطار التفاوضي الذي اقترحته طهران، والذي كان من أبرز ملامحه أن مفهوم التفاوض وتعريفه لدى إيران يختلف عن التعريف الذي يقدمه الغرب وبعض الدول في الإقليم مثل السعودية؛ حيث من الممكن أن تدخل في مفاوضات إقليمية، أساسها التوقف عن الدعوة لإقصائها من المنطقة وأن يكون التفاوض بشأن عودة الأمن والسلام إلى سوريا والعراق واليمن عملًا جماعيًّا ضمن آليات جديدة يكون لإيران دور أساسي فيها. وأرسلت إيران رسائل متتالية آتت أكلها وهي أنها يمكنها أن تتفاوض لكن بعد تعريف واضح لمعنى التفاوض وحدوده يقوم على مفاوضات إقليمية تتقدم على المفاوضات الدولية.
على الرغم من العقوبات وضغطها المتزايد على إيران، إلا أنها تبدو مرتاحة أكثر من الطرف السعودي في هذه المحادثات الذي ينصب تركيزه بصورة كبيرة على الملف اليمني، وهو ما يجعله غير قادر على تسجيل نقاط فيما يتعلق بالنفوذ الإقليمي لإيران. لكن وفي الوقت ذاته تحتاج إيران في عهد رئيسي إلى تقديم ما يثبت حسن النوايا والجدية في طرح “أولوية الجوار”.
إن مجرد إجراء محادثات لن يجعل إيران تتنازل عن نفوذها الإقليمي، بل سوف تسعى إلى توظيف هذه المحادثات لتعظيم مزايا حلفائها، ولعل من ذلك القبول بالنظام السوري وإعادة العلاقات معه ولا تبدو السعودية ممانعة على هذا الصعيد.
إن الانسحاب الأميركي المتدرج من المنطقة قد أحدث ارتباكًا لدى حلفائها الذين ربطوا -وعلى مدى عقود- أمنهم بالعلاقة معها، مما يجعلهم اليوم أمام تحدي إعادة تعريف علاقاتهم الإقليمية بناء على هذه التطورات، ومع ذلك ستبقى أزمة العلاقات الإيرانية-الأميركية وتطوراتها مؤثرة على طبيعة علاقات إيران والسعودية، سواء جرت العودة إلى المحادثات النووية وإحياء الاتفاق النووي أو تعثرت هذه المحادثات وأفضت إلى تصعيد بين الجانبين.
إن تحسن العلاقات الإيرانية-السعودية، ضرورة للحد من الحضور المتزايد لإسرائيل في منطقة الخليج، وهو الحضور الذي ترى فيه إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
إن عودة العلاقات الإيرانية-السعودية، من شأنها أن تعزز من فرص البلدين اقتصاديًّا.
إن عودة العلاقات الدبلوماسية لن تعقبها حلول كبيرة لملفات الخلاف بل قد لا تتعدى مساحة “السلام البارد” بينهما.
فاطمة الصمادي
مركز الجزيرة للدراسات