وفقاً لما يجري، في هذا العام، من احتجاجات، وبكربلاء والنجف على وجه الخصوص، يُحتمل أن يكون عاشوراء على غير العادة، ففي الأعوام السابقة تتقدم مواكب الأحزاب الدينية، والموكب الحكومي الأكبر بينها بلا منافسين، يظهر قياديو الأحزاب أمامها يسوطون القدور، ويقدمون الطعام للناس ضيافةً، لابسين السواد وموشحين رقابهم بخرق خُضر، علامة الحزن على الحُسَين (قُتل 61 هـ)، ورمز العلوية، يظهرون أمام الكاميرات متواضعين خدماً للحُسين، كي تبث صورهم فضائياتهم.
ستتواجه هذا العام مواكب المرائين، ومواكب المطالبين بالحقوق، وهؤلاء لا يبذلون طعاماً ولا شراباً، فخزائن النفط ليست بأيديهم، وليس هناك من يدفع تبرعات لهم. المتوقع أن يكون الحسين هذا العام بين جيشين، جيش الحاكمين الفائزين بمناصبهم باسمه، وجيش أصحاب الحقوق. ستكون الشعارات متضاربة، وربما تحصل المصادمات، بين حمايات الوزراء والمحافظين وأعضاء البرلمان والمتظاهرين منذ أسابيع، وهم مجردون من حمايات وعقارات، ولا يحتاجون إلى ثياب سُود ولا خرق خُضر، فالحسين بن علي يُعرف حق المعرفة، ولا حاجة إلى الرياء باسمه.
جرت العادة، وفي ظروف العراق السياسية، أن تستغل قضية الحسين في يوم عاشوراء (10 محرم)، من قِبل المعارضات السرية والعلنية، وذلك للشغب من خلالها ضد السلطة السياسية، لهذا منعت في العديد مِن العهود، ويغلب على الظن أن هذا هو السبب الوحيد لمنعها، وليس لأن ممارستها بعيدة عن أسلوب التحضر والمدنية، أو لأنها تساعد على الفوضى. هذا يبدو غير صحيح، إنما كانت تُمنع خشية التحرك من خلالها. ليس بالضرورة أن تكون المعارضات التي تستغلها على حق دائماً، فالأجدر أن يُترك توظيفها من قِبل سلطة ومعارضة، غير أن واقع الحال أنها مناسبة للتوظيف السياسي، لا يعتقها طامح في أمر.
أما البويهيون فأقاموها رسمياً (352هـ)، بعد أن حكموا بغداد وغلبوا على الخلافة العباسية (334- 447هـ)، والسبب على ما يبدو أيضاً لمواجهة الخصوم وجلهم من العلويين، أو المحسوبين عليهم كثورة عمران بن شاهين (ت 369هـ) بين بردي وقصب أهوار جنوبي العراق عام 338هـ، التي ظلت مشتعلة حتى وفاته (مسكويه، تجارب الأمم). رويَّ: «في هذه السَّنة (352هـ) عاشر المُحرم أمر معزُّ الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النِّياحة، ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء منشورات الشُّعور، مسودات الوجوه..» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ)، ذلك في زمن الخليفة العباسي المطيع لله (ت 364هـ)، وكان مغلوباً على أمره.
لهذا تحدث إخوان الصفا عن عاشوراء، فرسائلهم كُتبت خلال العهد البويهي ببغداد والبصرة، وبُثت في الوراقين (سوق الكُتب) بحدود (373هـ)، حسب رواية صاحب أحدهم أبي حيان التَّوحيدي (ت 414هـ) في «الإمتاع والمؤانسة». قالوا في ذكر الحُسين وما يوقد الثأر: «ومن الأبيات الموزونة أيضاً ما يثير الأحقاد الكامنة، ويحرك النفوس الساكنة، ويلهب نيران الغضب مثل قول القائل: واذكروا مصرع الحسين وزيد/ وقتيلاً بجانب المهراس. فإن مثل هذه الأبيات وأخواتها أيضاً، أثارت أحقاداً بين أقوام، وحركت نفوسهم، والتهبت فيها نيران الغضب، وحثهم على قتل أبناء الأعمام والأقرباء والعشائر، حتى قتلوهم بذنوب آبائهم ووزر أجدادهم» (الرسائل، القسم الرياضي)، وإخوان الصفا ليسوا ضد مذهب ولا مع آخر، وهم الأقرب للعلويين. أقول هذا كي لا يفسر كلامهم موقفاً طائفياً.
إنها المرة الأولى أن يقسم عاشوراء إلى حكومي وشعبي، سلطة اليوم كانت تقيمه وهي معارضة، وأيضاً كنا نرى الرياء في مجالسها، فصاحب أكبر مجلس أو موكب يكون الأكثر أتباعاً، بل أخذت الزعامة تُقاس بحجوم المجالس والمواكب، وكثرة المرتادين. أما عاشوراء الشعبي الذي لم يُعبأ لتكريس زعامة فستفرزه تظاهرات هذا العام. وسيكون طُلاب الحقوق في مواجهة طلاب التثبيت في الزعامة.
هل سيخجل المطلوبة محاسبتهم من الحسين ويكفوا عن لبس السواد وخدمة المواكب رياءً؟ إنه القائل حسب ما يسمعون في مجالس العزاء: «إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح». مع مَن سيكون الحسين مع المطالبين بدرء الفساد وتحقيق الإصلاح! أم مع المتخذين من عاشوراء بطراً ورياءً «لغرض يقضونه»؟
يستفز العراقيون كلَّ الاستفزاز وهم يرون رايات عاشوراء السود تخفق فوق مبان مختلسة، مثلما يكرهون أن تكون أسماء أئمة لهم جلالتهم عناوين لعقارات مباعة بصفقات فساد. لقد أفسدوا المناسبات التي كان الناس يحيونها بلا أغراض. أكررها: مع من سيقف الحسين هذا العام المراد أن يكون حاسماً مع الفاسدين؟!
رشيد الخيّون
جريدة الاتحاد الاماراتية