جيوسياسية الزحف الإيراني الجديد

جيوسياسية الزحف الإيراني الجديد

أمام هذا العنوان، لا بد أن نطرح مبرّراً مقنعاً، يقود إلى فهم وجود هذه الجيوسياسية على الأرض. وبالطبع، نحن هنا نستعرض واقع المشرق العربي حالياً، بين إيران والمحيط العربي، وبالذات مع الخليج العربي، بحكم أنهُ كان يعلن سابقاً وحتى اليوم، مع ضعف هذا الزخم، أن تقدّم المشروع الإيراني على الصعيدين، الطائفي والسياسي، بل والعسكري، يهدّد أمنه القومي، وشعبياً في دول الخليج العربي وفي غالبية المشرق العربي، هناك إيمان عميق بذلك. لكن الحاصل اليوم أن هذه السياسة العربية الخليجية فشلت فشلاً ذريعاً، وأصبح فشلها قاعدة الانطلاق الجديد لجيوسياسية المشروع الإيراني الكبير. وهو مشروعٌ بالفعل يُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، لكنه، وللمفارقة، لا يتصادم حتى اليوم مع الخريطة الأخرى لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي توافقت عليه تل أبيب وواشنطن حلا نهائيا، لتصفية القضية الفلسطينية والتطبيع مع الشعوب ومع الأنظمة، وهو بالضبط ما يحصل اليوم على الأرض، جنباً إلى جنب مع حقيقة التقدّم الإيراني.

يرى النظام السوري مشروعية وجوده في الرداء الإيراني الذي وجد من الوحدة الطائفية، معسكر تحالف سياسي يُعزّز الانشطار العربي

لا نعيد هنا طرح ضجيج البروباغندا عن اتفاق المشروعين، فلا حاجة لذلك الصخب، غير أننا نرصد اتحاداً في مسيرة الاقتطاع، وأحياناً الاقتلاع للمفاهيم وللأرض العربية، يبسطها كلا الطرفين. ومن اليقين أن مسؤولية هذه الهزيمة تتحمّلها المؤسسة السياسية في الخليج العربي. لكن من دون أن يُسقط ذلك مسؤولية باقي الأنظمة العربية. ولسنا نورد هنا العراق ولا سورية، لكونهما أصلاً في العربة الخلفية للقوة الإيرانية الجديدة، كما أن النظام السوري يرى مشروعية وجوده في هذا الرداء الإيراني الذي وجد من الوحدة الطائفية على تناقضها، معسكر تحالف سياسي يُعزّز الانشطار العربي، ويصنع جدران عزلٍ على أساس مذهبي أو طائفي، فتخلّي مصر عن دورها لتكون قاعدة توازن كان أحد أسبابه واقعها القومي والصراع الأمني مع ثورة 25 يناير (كانون الثاني 2011) وما أفرزته. وهناك فشلٌ خاص للسياسة الخليجية في هذا الملف تحديداً، إذ إن الاستقرار القومي، سواء كان في عهد الرئيس المنتخب الراحل، محمد مرسي، الذي مد يده مخلصاً للخليج، أو حتى في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بتشجيع المصالحة الوطنية وإطلاق كل المعتقلين، حتى مع إقصاء النظام الإخوان المسلمين سياسياً، فقد كان من الممكن أن تستفيد من هذه الأرضية دول الخليج العربي، لكن ما حصل هو العكس تماما، إذ ساهم المال الخليجي في تصعيد التوتر الذي أفقد مصر مزيدا من توازنها، وأضحت في مرحلة عجز شديد، حتى في تحقيق ردع سياسي لا أكثر، أمام إيران في لبنان وسورية واليمن، ومن ثم الخليج العربي، وبعض التأثير الضعيف لصالح عروبة العراق.

تورّط الخليج في اللعبة الطائفية، وتحشيد العواطف داخل النسيج الاجتماعي الوطني، خسر خسارة كبرى

أما في المسألة المذهبية، فها نحن اليوم نتبيّن، على أرض الواقع، أن تورّط الخليج في اللعبة الطائفية، وتحشيد العواطف داخل النسيج الاجتماعي الوطني، خسر خسارة كبرى، من دون أن تتراجع طهران عن خطابها الطائفي، ولا أيقونات وأدوات مشروعها فيه، غير أنّ طهران كانت تعتمد، في سنوات التأسيس، خلافاً للخليج العربي، على خطابٍ براغماتيّ ذكي منافق سياسياً. وتترك للمسار غير الرسمي تحشيد الكراهية المذهبية، وتزحف، من خلاله، إلى إنساننا العربي، وهي اليوم الخيمة السوداء التي تسعى حركة الاحتجاج المدني، وغالبها من أسر شيعية، إلى هدم أسوارها وتحرير العراق اجتماعيا والعودة إلى الوحدة الوطنية.
فشل المواجهة في اليمن ليس متصلاً بمستقبل اليمن وحده، ولكنه يتجاوز ذلك إلى الإقليم العربي الكبير، ويجعل انتصار الخيار الإيراني مع الحوثي مهيأ لإيجاد خطوط تماسّ سياسي خطرة جداً مع الخليج العربي، لم تصل له من قبل مستويات الصراع الإيراني العربي، وخصوصا بعد تقدّم الإيرانيين من خلال الحوثي لحسم كامل جبهة اليمن الشمالي. لقد قاد الفشل في خطة الحرب إلى إنهاك أكبر قوة اجتماعية متماسكة ضد الحوثي، وهم رجال القبائل، سواء كانوا في الجيش، أو في مقاومة القبائل، والتراجع في جبهة مأرب مسبوقٌ في جبهاتٍ أخرى، وبالتالي مسألة حسم الشمال لصالح طهران تقترب كثيراً، وفي الوقت ذاته الذي تتقدّم فيه الرياض بعدة خطوات لإنهاء الحرب، في مستوى ضمانات لحدودها فقط، مع شروط حوثية وإيرانية أخرى، فماذا يعني هذا؟
يعني أن كامل الشمال اليوم هو في مرحلة الخطوات الأخيرة للخضوع لسلطة الحوثي، وتغطية ذلك دولياً ممكنٌ أن تتم بسلاسة بعد اتفاق وقف الحرب، فمجمل الموقف الغربي يتعامل بحيوية مع النفوذ الإيراني. والانكفاء السعودي سيكون ذا حمولةٍ لها تداعياتٌ بعد كل دورات العجز، والتي كان في الوسع أن تُجنب فيه اليمن دائرة توسّع الحرب، وصمود الشرعية ينظم بدعم ميداني من الأرض، وهو يحدّد مساره بين اليمنيين في الصراع، من دون فواتير إضافية للحرب المهلكة.

سياسات الدولة الطائفية في البحرين فاقمت الأزمة، وهي ذات جذور قديمة

لكنّ آثار الهزيمة اليوم تتجه إلى الجنوب اليمني، فقدرة الحوثيين ستتعاظم، وكون أبوظبي الضامن للجنوب، والمهيمن على قراره السياسي، لا يعني أن هذا الأمر يضمن بقاء الأقاليم الجنوبية بعيدة عن إيران، فللإمارات أيضا تصوّر أمن استراتيجي يخصّ حدودها، ومستقبلها مع طهران ذات السوق القوي في دبي. وعليه، فإنّ التعارض بين تأمين اتفاق لصالح أمنها مع ايران ومصالح الجنوبيين اليمنيين سيكسب فيه أمنها المباشر مع طهران.
أما الجيوسياسية الثانية في البحرين، فسياسات الدولة الطائفية هناك فاقمت الأزمة، وهي ذات جذور قديمة، منذ خَذَل الحكم موقف وجهود الرمز الشيعي المعتدل الراحل الشيخ عبد الأمير الجمري، الذي مهد لاتفاق المصالحة والميثاق، ثم تراجع الحكم عن مساحة السلطة التشريعية، فقويت المعارضة الطائفية، وأصبح الشيخ عيسى قاسم مرجعها المطلق، وهو اليوم رسميا يتخذ من المنفى مرجعيةً للمشروع السياسي، بالنموذج الطائفي الإيراني ذاته، ومكابرة النظام في عدم المصالحة ستعقد المشهد أكثر، وهو يتذكّر موقف لندن في الساعات الأخيرة لاحتجاجات 2011، والتي كادت أن تهوي بكل النظام الخليفي.

مهنا حبيل

العربي الجديد